كما حكى العسكريّ في «الأوائل» أن رافعا رفع كتابا إلى الرّشيد، وكتب في أسفله:(طويل)
إذا جئت عارا أو رضيت بذلّة، ... فنفسي على نفسي من الكلب أهون!
فكتب إليه الرشيد كتابا وكتب في أسفله:(طويل)
ورفعك نفسا طالبا فوق قدرها ... يسوق لك الحتف المعجّل والذّلّا
وبالجملة فمذاهب الناس في التمثّل بالشّعر في المكاتبات الملوكيّة مختلفة، ومقاصدهم متباينة بحسب الأغراض؛ ولذلك أورد الشيخ جمال الدين بن نباتة هذه المسألة في جملة أسؤولته، التي سأل عنها كتّاب الإنشاء بدمشق، مخاطبا بها الشيخ شهاب الدين محمودا الحلبيّ، وهو يومئذ صاحب ديوان الإنشاء بها فقال: ومن كره الاستشهاد في مكاتبة الملوك بالأشعار؟ وكيف تركها على ما فيها من الآثار؟
أما المكاتبات الإخوانيات الواقعة بالتّهاني، والتّعازي، والتّزاور، والتّهادي، والمداعبة، وسائر أنواع الرّقاع في فنون المكاتبات، فقد قال في «موادّ البيان» : إنه يجوز أن تودع أبيات الشعر على سبيل التمثّل وعلى سبيل الاختراع، محتجّا بأن الصّدر الأوّل كانوا يستعملون ذلك في هذه المواضع. وهذا الذي ذكره لا خفاء فيه، وكتب الرسائل المدوّنة من كلام المتقدّمين والمتأخّرين من كتّاب المشرق والمغرب شاهدة بذلك، ناطقة باستعمال الشعر في المكاتبات، وأثنائها ونهاياتها، ما بين البيت والبيتين فأكثر، حتّى القصائد الطّوال. وأكثر ما يقع من ذلك البيت المفرد والبيتان فما حول ذلك. كما استشهد القاضي الفاضل في بعض مكاتباته في الشوق بقوله:(طويل)
ومن عجبي أنّي أحنّ إليهم، ... وأسأل عنهم من أرى وهم معي!
وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي!