المؤمنين وعهدته، ومروق عن أزمّته، وعقوق بالبرية يشقى به الباقي، ولن يشقى به النازح الماضي. فإنّ أمير المؤمنين ما زال واعيا لأوامر سلفه، عارفا بمآثر خلفه، متجافيا لأولئك عما ابتدعه، متنوّيا لهذا التّجاوز عمّا صنعه، فقد كان نمي إلى أمير المؤمنين أنّ عبد الملك بن نوح، مولى أمير المؤمنين، سليم السّريرة، سديد البصيرة، يرجع إلى رأيه وتدبيره، ولم يجد وشمكير بن زنار، عاجله بالبوار، مساغا إلى ختله، ولا احتيالا في ليّه وفتله، وكان لعبد الملك ركن الدولة بن مالك مولى أمير المؤمنين ظهير صدق، إن وسن أيقظه، وإن ماد أيّده، خلّة فضل فطره الله عليها، وغريزة تمييز أحسن الله إليه فيها، فإنه لو قال أمير المؤمنين: إنه لا مثل له استحقّ هذا الوصف، ولأمن أمير المؤمنين فيه الخلف. ترك لباس أبيه فنزعه، واعتاض منه وخلعه، وتنصّل مما كان منه منتهكا، فعاد عليه محتنكا، وأتى الأمر من طريقه، ولجأ فيه إلى فريقه، ركن الدولة أبي عليّ مولى أمير المؤمنين، أحسن الله ولايته، ومعزّ الدولة أبي الحسين تولّى الله معونته، واستصلحهما، وكفى، واستخلصهما، وغنى، وراسل في الإنابة وإن لم يكن حائدا، والاستقالة وإن لم يكن جانيا، فما ترك ركن الدولة ومعز الدولة- كلأهما الله- إكبار قدره، وإجلال أمره، والقيام بخلاصه، والنطق عن أمير المؤمنين بلسان مشاركته، وإذكار أمير المؤمنين بما لم ينسه من تلك الوثائق، التي صدّر بها كتابه، والعلائق، التي وشّح بها خطابه، إلى أن أجلّ أبا محمد نوحا وترحم عليه، وقبل عبد الملك وأحسن إليه، وواصل رسله، واستمع رسائله، وقلّده خراسان ونواحيها، وسائر الأعمال الجارية فيها، وعهد إليه في ذلك عهدا وميّزه باللواء، والخلع «١» والحباء، بعد أن كنّاه بلسانه، ووفّاه حدود إحسانه؛ وألحقه في ذلك بآبائه، ولم يقصّر فيه بشأوه.
وكتاب أمير المؤمنين هذا، وقد اطّردت الحال واستوثقت، وامتزجت الأهواء واتفقت؛ وخلا المشرق من الاضطراب الذي طال أمده، ولم يكد يرى أثره،