للصّعب الجموح، فكان الغزير الصيّب، والكثير الطيّب؛ والمتّبع إن مضى بقلوب وأسماع، والمضاعف حسنه إن كرّر إلى غير انقطاع. كيف لا؟ وقد بشّر خبره بالمراد في المراد «١» ، وأوقع اليقين بما خرق العادات من الإسعاف والإسعاد، وكان من آحاد الاخبار لا من أخبار الآحاد «٢» ؛ ومما اقتصّه ما جرى من أوائل الحركة السعيدة، واعترض من المتاعب الشديدة؛ وأن الشتاء كان في ابتدائه، والغيم ساحب لردائه، ساكب فضل أندائه. والمكاره في طيّها النّعم الجسام، والنفوس الكبار تتعب في مرادها الأجسام؛ ولذلك هانت على المقام العلي- أيده الله- تلك المشاقّ، ورجّى من عمله ونظره ما جنى من ثمرة العاقّ؛ فسار إليه بالجحفل الأحفل، والعزيمة الزعيمة بفضّ المقفل، ورضّ الأعلى والأسفل؛ وقد اعتزّ بأجلّ المدائن شانا، وأوثقها بنيانا، وأبعدها صيتا ومكانا؛ وهي التي أعيت رياضتها كلّ رائض، وسخرت بكلّ قاعد بقنونها «٣» رابض؛ وجمع إليها من طرد الآفاق، وأعداد الاجتماع والاتّفاق، أتباع كلّ ناعق، وأشياع كل مارد مارق، فاستحلّوا الدماء، وركبوها مضلّة عمياء، وأدرك كلّ منهم مما شاء للإسلام ما شاء، وعدوّ الله يفتل لهم في الذّروة والغارب «٤» ، ويضرب لهم سكّان البلد ضرب الغرائب؛ حتّى أباد خضراءهم، وجعلهم شرّ خلف فيمن وراءهم؛ غير مبال بما احتقب من الجرائر «٥» ، واقترف من إباحة الحرائر، فاجترأ مدّة بالجلاء، وازداد إثما بالإملاء؛ وحينئذ سمت إليه عساكر الإسلام، وناولته بالموت الزّؤام، ورأى عيانا ما كان يطير