غضبوا لملّتهم، وامتعضوا مما لم تجربه عادة في شريعتهم، ونفرت نفوسهم مما يعتقدون أن الصّبر عليه قادح في دينهم، ومضاعف لآلامهم، وأنه ذنب لا يغفر، ووزر لا يتجاوز ولا يصفح [عنه] حتّى إن أهل المشرق أخذوا في ذلك وأعطوا، وعزموا على ما اتفقوا عليه ممّا صرفه الله وكفى مؤونته والاشتغال به.
وأما ما التمسته من تسيير من بالباب من طائفتك إليك، فهذا أمر لا يسوغ ولا يمكن فعله، ولو جاز أن يؤمر به لمنع المسلمون منه فلم يفسحوا فيه. والآن فلن يخلو حالك من أحد قسمين، إما أن تكون متعلّقا بأمور الدنيا وغير منفصل عنها، فأمير المؤمنين يخيّرك في ولاية أحد ثلاثة مواضع، إما قوص، أو إخميم، أو أسيوط، فأيّها اخترت ولّاك إيّاه، وردّ أمره والنظر فيه إليك، على أن تقتصر من الذين معك على خمسين أو ستين فارسا، وتسيّر الباقين إلى الباب ليجروا على عاداتهم، ورسومهم في واجباتهم وإقطاعاتهم، إذ كانوا عبيد الدولة ومتقلبين في فضلها، وأكثرهم متولّدون في ظلّها. وإما أن تكون على القضية التي ما زلت تذكر رغبتك فيها وإيثارك لها، من التّخلّي عن الدنيا ولزوم أحد الدّيرة، والانقطاع إلى العبادة، فإن كنت مقيما على ذلك فتخيّر ضيعة من أي الضّياع شئت يكون فيها دير تقيم فيه وتنقطع إليه، فتعيّن الضيعة ليجعلها أمير المؤمنين تسويغا لك مؤبّدا، وإقطاعا دائما مخلّدا، وتجري مجرى الملك، ويكتب لك بذلك ما جرت العادة بمثله، مما تطمئن إليه وتستحكم ثقتك به. وإن أبيت القسمين المذكورين ولم يرضك الأوّل منهما، ولا رغبت في الثاني، فتحقّق أن المسلمين بأجمعهم، وكافّتهم وأسرهم، وكلّ من يقول بالشهادتين، من قاص ودان، وقريب وبعيد، وكبير وصغير، ينفرون إليك، ويتّفقون على القصد لك، ولا يختلفون في التوجّه نحوك، وهو عمل دينيّ، لا يريّثه أمر دنيويّ، فتأمّل ما تضمنته هذه الإجابة من الأقسام، وطالع بما عندك في ذلك.
قلت: وهذا الصّنف من المكاتبات السلطانية لا وجود له في زماننا لعدم وقوع الهدن المترتب عليها هذا الصّنف من المكاتبات، فإن احتيج إلى ذلك مشّاه الكاتب على القاعدة القديمة المتقدّمة.