للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأمره بالجلوس للخصوم، وفتح بابه لهم على العموم، وأن يوازي بين الفريقين إذا تقدّما إليه، ويحاذي بينهما في الجلوس بين يديه، ويقسم لهما أقساما متماثلة من نظره، وأقساطا متعادلة من كلمه: فإنه مقام توازن الأقدام، وتكافؤ الخواصّ والعوامّ، لا يقبل على ذي هيئة لهيئته، ولا يعرض عن دميم لدمامته، ولا يزيد شريفا على مشروف، ولا قويّا على مضعوف، ولا قريبا على أجنبيّ، ولا مسلما على ذمّي، ما جمعهما التخاصم، وضمّهما التحاكم. ومن أحسّ منه بنقصان بيان، أو عجز عن برهان، أو قصور في علم، أو تأخّر في فهم، صبر عليه حتّى يستنبط ما عنده، ويستشقّ ضميره، وينقع بالإقناع غلّته، ويزيح بالإيضاح علّته.

ومن أحسّ منه بلسن وعبارة وفضل من بلاغة، أعمل فيما يسمعه منه فكره، وأحضره ذهنه، وقابله بسدّ خلّة خصمه، والإبانة لكل منهما عن صاحبه، ثم سلّط على أقوالهما ودعاويهما تأمّله، وأوقع على بيّناتهما وحججهما تدبّره، وأنفذ حينئذ الحكومة إنفاذا يعلمان به أنّ الحقّ مستقرّ مقرّه، وأن الحكم موضوع موضعه؛ فلا يبقى للمحكوم عليه استرابة ولا للمحكوم له استزادة، وأن يأخذ نفسه مع ذلك بأطهر الخلائق وأحمدها، وأهدى السّجايا وأرشدها، وأن يقصد في مشيه، ويغضّ من صوته، ويحذف الفضول من [لفظه و] «١» لحظه، ويخفّف من حركاته ولفتاته، ويتوقّر من سائر جنباته [وجهاته] «٢» ، ويتجنّب الخرق والحدّة، ويتوقّى الفظاظة والشّدّة، ويلين كنفه من غير مهانة، ويربّ هيببته في غير غلظة، ويتوخّى في ذلك وقوفا بين غايتيه، وتوسّطا بين طرفيه، فإنه يخاطب أخلاطا من الناس مختلفين، وضروبا غير متّفقين، ولا يخلو فيهم من الجاهل الأهوج، والمظلوم المحرج، والشيخ الهمّ «٣» ، والناشيء الغرّ، والمرأة الرّكيكة، والرجل الضعيف النّحيزة؛ وواجب عليه أن يغمرهم بعقله، ويشملهم بعدله، ويقيمهم على الاستقامة بسياسته، ويعطف عليهم بحلمه ورياسته، وأن يجلس وقد نال من

<<  <  ج: ص:  >  >>