وصعد من درجات الترقّي على أبناء جنسه أعلاها، فنزّه نفسه عن مشاركة الناس، وتقشّف بين أهله في المأكل واللّباس، وترك الزواج والنّكاح، واشتغل بعبادته التي لازم عليها في المساء والصّباح، وألقى نفسه إلى الغاية في الاطّراح، وساح بخاطره في الفكرة وإن لم يكن بجسده قد ساح، وارتاض بترك الشّهوات مدّة زمانه، واطّرح الملاذّ لتعلو درجته بين أهله برفعة مكانه، واشتمل من علوم طائفته على الجانب الوافر، وعرف من أوامرهم ونواهيهم ما تقرّ به منهم العين والناظر، وطلب من الربّ الرؤوف الرحيم القوّة على أعماله، وسأل الإله أن يزيّن لأهل ملّته ما يأتي به من أقواله وأفعاله، فوقع اختيارهم عليه، وسألوا صدقاتنا الشريفة إلقاء أمرهم إليه.
فرسم بالأمر الشريف- لا زال إحسانه إلى سائر العالم واصلا، وجوده لكل طائفة بارتياد أكفائها شاملا- أن يقدّم حضرة القدّيس المؤتمن جرجس المشار إليه على الطائفة اليعقوبية، من الملة النصرانية، بالديار المحروسة والجهات الجاري بها العادة، ويكون بطريركا عليهم على عادة من تقدّم في ذلك ومستقر قاعدته إلى آخر وقت، قائما بما يجب عليه من أمور هذه الملّة، باذلا جهده في سلوك ما ينبغي مما ينظم عليه أمره كلّه، فاصلا بينهم بما يعتقدونه من الأحكام، متصرفا على كل أسقفّ وقسّ ومطران في كل نقض وإبرام، مالكا من أمور القسّيسين والرّهبان والشّمامسة الزّمام، مانعا من يروم أمرا لا يسوّغه وضع ولا تقرير، جاعلا نظره عليه منتقدا بالتحرّز في التخيير، زاجرا من يخرج منهم عن اتباع طريق الشريعة المطهّرة التي يصح بها عقد الذّمّة، ملزما بسلوكها في كل ملمة فإن ذلك من الأمور المهمّة، آمرا من في الدّيرة من الرّهبان بمعاملة المارّين بهم والنازلين عليهم بمزيد الإحسان ومديد الإكرام، والقيام بالضّيافة المشروطة من الشّراب والطّعام.
وليتحدّث في قسمة مواريثهم إذا ترافعوا إليه، وليجعل فصل أمور أهل طائفته من المهمّات لديه، وليشفق على الكبير والصغير، وليتنزّه عن قليل متاع الدنيا والكثير، وليزهد في الجليل قبل الحقير. وفي اطّلاعه على أحكام