نحمده على أن خصّ مصاقع «١» الخطباء من فضل اللّسن بالباع المديد، وقصر الجامع الأمويّ على أبلغ خطيب يشيب في تطلّب مثله الوليد، وأفرد فريد الدّهر باعتبار الاستحقاق برقيّ درج منبره السّعيد، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تخفق على مواكب الصّفوف أعلامها، وتتوفّر من تذكير آلاء الله تعالى أقسامها، ولا تقصّر عن تبليغ المواعظ حبّات القلوب أفهامها، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله أفضل نبيّ نبه القلوب الغافلة من سناتها، وأيقظ الخواطر النّائمة من سباتها، وأحيا رميم الأفئدة بقوارع المواعظ بعد مماتها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين علا مقامهم، ففاتت أعقابهم الرّؤوس، ورفعت في المجامع رتبهم، فكانت منزلتهم منزلة الرّئيس من المرؤوس، صلاة لا تزال الأرض لها مسجدا، ولا يبرح مفترق المنابر باختراق الآفاق لاجتماعها موردا.
وبعد، فإنّ أولى ما صرفت العناية إليه، ووقع الاقتصار من أهمّ المهمّات عليه- أمر المساجد الّتي أقيم بها للدّين الحنيف رسمه، وبيوت العبادات الّتي أمر الله تعالى أن ترفع ويذكر فيها اسمه؛ لا سيّما الجوامع الّتي هي منها بمنزلة الملوك من الرّعيّة، وأماثل الأعيان من بين سائر البريّة؛ ومن أعظمها خطرا، وأبينها في المحاسن أثرا، وأسيرها في الآفاق النّائية خبرا، بعد المساجد الثلاثة التي تشدّ الرّحال إليها، ويعوّل في قصد الزيارة عليها- جامع دمشق الّذي رست في الفخر قواعده، وقامت على ممرّ الأيام شواهده، وقاوم الجمّ الغفير من الجوامع واحده، ولم تزل الملوك تصرف العناية إلى إقامة شعائر وظائفه، وتقتصر من أهل كلّ فنّ على رئيس ذلك الفنّ وعارفه؛ فما شغرت به وظيفة إلا اختاروا لها الأعلى والأرفع، ولا وقع التّردّد فيها بين اثنين إلّا تقيّلوا «٢» منهما الأعلم والأروع؛ خصوصا وظيفة الخطابة الّتي كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم للقيام بها