والإقسام لا يقع منه سبحانه إلا بشريف ما أبدع، وكريم ما اخترع: كالشمس والقمر والنجوم ونحوها إلى غير ذلك من الآيات الدالة على شرفها ورفعة قدرها.
ثم كان نتيجة تفضيلها، وأثرة تعظيمها وتبجيلها، أن الشارع ندب إلى مقصدها الأسنى، وحثّ على مطلبها الأغنى، فقال صلى الله عليه وسلّم: قيّدوا العلم بالكتاب، مشيرا إلى الغرض المطلوب منها، وغايتها المجتناة من ثمرتها؛ وذلك أن كل ذي صنعة لا بدّ له في معاناتها من مادّة جسمية تظهر فيها الصورة، وآلة تؤدّي إلى تصويرها، وغرض ينقطع الفعل عنده، وغاية تستثمر من صنعته.
والكتابة إحدى الصنائع فلا بدّ فيها من الأمور الأربعة.
فمادّتها، الألفاظ التي تخيّلها الكاتب في أوهامه، وتصوّر من ضم بعضها إلى بعض صورة باطنة في نفسه بالقوة؛ والخطّ الذي يخطه القلم، ويقيد به تلك الصّور، وتصير بعد أن كانت صورة معقولة باطنة صورة محسوسة ظاهرة.
وآلتها القلم. وغرضها الذي ينقطع الفعل عنده تقييد الألفاظ بالرسوم الخطية، فتكمل قوّة النطق وتحصل فائدة للأبعد كما تحصل للأقرب، وتحفظ صوره، ويؤمن عليه من التغير والتبدّل والضّياع. وغايتها الشيء المستثمر منها، وهي انتظام جمهور المعاون «١» والمرافق العظيمة، العائدة في أحوال الخاصة والعامّة بالفائدة الجسيمة في أمور الدين والدنيا.
ولما كان التقييد بالكتابة هو المطلوب، وقع الحضّ من الشارع عليه، والحث على الاعتناء به تنبيها على أن الكتابة من تمام الكمال، من حيث إن العمر قصير والوقائع متسعة؛ وماذا عسى أن يحفظه الإنسان بقلبه أو يحصّله في ذهنه.