أما بعد، فإنّ لكلّ وسيلة جزاء على نسبة مكانها، وهي تتفاوت في أوقات وجوبها ومثاقيل ميزانها؛ ومن أوجبها حقّا وسيلة الهجرة التي طوى لها الأمل من شقّته ما طوى، وبعث بها على صدق النّية «ولكلّ امريء ما نوى» ؛ فالأوطان إليها مودعة، والخطوات موسّعة، والوجوه من برد الليل وحرّ النهار ملفّعة، وقد توخّاها قوم في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحظوا في الدّنيا باعتلاء المنار، وفي الآخرة بعقبى الدار، وقدّموا على من آوى ونصر فقال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ
«١» ؛ ثم صارت هذه سنّة فيمن هاجر من أقوام إلى أقوام، واستبدل بأنام عن أنام؛ وكذلك فعلت أيّها الأمير فلان- وفقك الله- وقد تلقّيت هجرتك هذه بالكرامة، وزخرفت لها دار الإقامة؛ فما ابتغيت بها بغية إلا سهّلت لك فجاجها، أو عاج عليك معاجها، وحمد لديك تأويبها وإدلاجها، وأصبحت وقد وجدت خفضا غبّ السّرى، وخيطت منك الجفون على أمن الكرى، وتبوّأت كنف الدولة التي هي أمّ الدّول إذ صرت إلى القرية التي هي أمّ القرى.
ونحن قد أدنيناك منّا إدناء الخليط والعشير، ورفعناك إلى محلّ الاختصاص الذي هو المحلّ الأثير، وآخينا بينك وبين عطايانا كما ووخي بين الصّحابة النّبويّة يوم الغدير.
هذا ولك وسيلة أخرى تعدّ من حسان المناقب، وتوصف بالصّفات الأطايب؛ وما يقال إلا أنها من الأطواد الرّواس، وأنها تبرز في اللباس الأحمر وغيرها لا يبرز في ذلك اللّباس؛ وهي التي تجعلك بوحدتها في كثرة، وتتأمّر بها من غير إمرة؛ وطالما أطالت يدك بمناط البيض الحداد، وفرّجت لك ضيق الكرّ وقد غصّ بهوادي الجياد، وحسّنتك العيون وقد رميت منك بشرق القذا ونبوة السّهاد؛ ومن شرف الإقدام أن العدوّ يحبّ العدوّ من أجله، ويضطرّه إلى أن يقرّ بفضله؛ ومذ وصلت إلينا وصلناك بأمرائنا الذين سلفت أيّامهم، وثبتت في