وقد اشتملت على بيان ما يحتاج إليه كاتب الإنشاء من الموادّ، وما ينبغي أن يسلكه من الجوادّ، مع التّنبيه على جملة من المصطلح بيّنت مقاصده، ومهّدت قواعده، على ما ستقف عليه في خلال مطاويها إن شاء الله تعالى؛ وهي:
حكى النّاثر ابن نظّام، قال: لم أزل من قبل أن يبلغ بريد عمري مركز التّكليف، ويتفرّق جمع خاطري بالكلف بعد التّأليف؛ أنصب لاقتناص العلم أشراك التّحصيل، وأنزّه توحيد الاشتغال عن إشراك التّعطيل، مشمّرا عن ساق الجدّ ذيل الاجتهاد، مستمرّا على الوحدة وملازمة الانفراد، أنتهز فرصة الشّباب قبل تولّيها، وأغتنم حالة الصّحّة قبل تجافيها؛ قد حالف جفني السّهاد، وخالف طيب الرّقاد، أمرّن النّفس على الاشتغال كي لا تملّ فتنفر عن الطّلب وتجمح، مميلا جانب قصدها عن ركوب الأهواء والميل إليها، صارفا وجه غايتها عن المطالب الدّنيويّة والرّكون إليها، متخيّرا أليق الأماكن وأوفق الأوقات، قانعا بأدنى العيش راضيا بأيسر الأقوات، أونس من شوارد العقول وحشيّها، وأشرّد عن روابض المنقول حوشيّها، وألتقط ضالّة الحكمة حيث وجدتها، وأقيّد نادرة العلم حيث أصبتها، مقدّما من العلوم أشرفها، ومؤثرا من الفنون ألطفها، معتمدا من ذلك ما تألفه النفس ويقبله الطّبع، مقبلا منه على ما يستجلي حسنه النّظر ويستحلي ذكره السّمع، منتقيا من الكتب أمتعها تصنيفا، وأتمّها تحريرا وأحسنها تأليفا، منتخبا من أشياخ الإفادة أوسعهم علما وأكثرهم تحقيقا، ومن أقران المذاكرة أروضهم بحثا وألطفهم تدقيقا، عارفا لكلّ عالم حقّه، وموفّيا لكلّ علم مستحقّه؛ قد استغنيت بكتابي عن خلّي ورفيقي، وآثرت بيت خلوتي على شفيقي وشقيقي؛ أجوب فيافي الفنون لتظهر لي طلائع الفوائد فأشهدها عيانا، وأجول في ميدان الأفكار لتلوح لي كمائن المعاني فلا أثني عنها عنانا، وأشنّ غارات المطالعة على كتائب الكتب فأرجع بالغنيمة، وأهجم على حصون الدّفاتر ثم لا أولّي عن هزيمة، بل كلّما لاحت لي فئة من البحث تحيّزت إليها، أو ظهرت لي