للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كتيبة من المعاني حملت عليها، إلى أن أتيح لي من الفتح ما أفاضته النّعمة، وحصلت من الغنيمة على ما اقتضته القسمة.

فبينا أنا أرتع في رياض ما نفّلت، وأجتني ثمار ما خوّلت، إذ طلع عليّ جيش التّكليف فحصرني، وخرج عليّ كمين التّكليف فأسرني، فأمسيت في أضيق خناق، وأشدّ وثاق، قد عاقني قيد الاكتساب عن الاشتغال، وصدّني كلّ الكدّ عن الاهتمام بالطّلب والاحتفال، فغشيني من القبض ما غشيني، وأخذني من الوحشة ما أخذني، وتعارض فيّ حكم العقل بين الكسب وطلب العلم، وتساويا في التّرجيح فلم تجنح واحدة منهما إلى السّلم، فصرت مدهوشا لا أحسن صنعا، وبقيت متحيّرا لا أدري أيّ الأمرين أقرب إليّ نفعا:

إن طلبت العلم للكسب فقد أفحشت رجوعا، وإن تركت الكسب للعلم هلكت ضيعة ومتّ جوعا.

فلما علمت أنّ كلّا منهما لا يقوم إلا بصاحبه، ولا يتمّ الواجب في أحدهما ما لم يقم في الآخر بواجبه، التمست كسبا يكون للعلم موافقا، وبحملته لائقا، ليكون ذلك الكسب للعلم موضوعا والعلم عليه محمولا، والجمع ولو بوجه أولى، فجعلت أسبر المعايش سبر متقصّد وأسير في فلوات الصّنائع سير متعهّد، لكي أجد حرفة تطابق أربي، أو صنعة تجانس طلبي.

فبينما أنا أسير في معاهدها، وأردّد طرفي في مشاهدها، إذ رفع لي صوت قرع سمعي برنّته، وأخذ قلبي بحنّته، فقفوت أثره متّبعا، وملت إليه مستمعا، فإذا رجل من أحسن الناس شكلا، وأرجحهم عقلا، وهو يترنّم وينشد:

إن كنت تقصدني بظلمك عامدا ... فحرمت نفع صداقة الكتّاب

السّائقين إلى الصّديق ثرى الغنى ... والنّاعشين لعثرة الأصحاب

والنّاهضين بكلّ عبء مثقل ... والنّاطقين بفصل كلّ خطاب

<<  <  ج: ص:  >  >>