فلما سمعت منه ذلك، وأعجبني من الوصف ما هنالك، دنوت منه دنوّ الواجل، وجلست بين يديه جلوس السّائل، وقلت: هذه وأبيك صفات الملوك بل ملوك الصّفات، وأكرم الفضائل بل أفضل المكرمات؛ ولم أك أظنّ أنّ للكتابة هذا الخطر الجسيم، وللكتّاب هذا الحظّ العظيم؛ فأعرض مغضبا، ثم فوّق بصره إليّ معجبا، وقال: هيهات فاتك الحزم، وأخطأك العزم؛ إنها لمن أعظم الصّنائع قدرا، وأرفعها ذكرا؛ نطق القرآن الكريم بفضلها، وجاءت السّنّة الغرّاء بتقديم أهلها، فقال تعالى جلّ ثناؤه، وتباركت أسماؤه: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ
«١» فأخبر تعالى أنه علّم بالقلم، حيث وصف نفسه بالكرم، إشارة إلى أن تعليمها من جزيل نعمه، وإيذانا بأن منحها من فائض ديمه؛ وقال جلّت قدرته: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ
«٢» فأقسم بالقلم وما سطّرته الأقلام، وأتى بذلك في آكد قسم فكان من أعظم الأقسام. وقال تقدّست عظمته: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ
«٣» فجعل الكتابة من وصف الكرام، كما قد جاء فعلها عن جماعة من الأنبياء عليهم السّلام؛ وإنما منعها النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، معجزة قد بيّن تعالى سببها، حيث ذكر إلحادهم بقوله: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها
«٤» .
هذا: وقد كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في كثرة الكتّاب راغبا؛ فقد روي أنه كان له عليه أفضل الصّلاة والسّلام نيّف وثلاثون كاتبا، هم نخبة أصحابه، وخلاصة