للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أترابه؛ ومن ائتمنهم على أسرار الوحي والتّنزيل، وخاطب بألسنة أقلامهم ملوك الأرض فأجابوا بالإذعان على البعد والمدى الطّويل؛ وكتب الملوك أيضا إليه ابتداء وجوابا، وكاتب أصحابه وكاتبوه فأحسن استماعا وأفحم خطابا، وبذلك جرت سنّة الخلفاء الراشدين فمن تلاهم، وعلى نهجه مشت ملوك الإسلام ومن ضاهاهم.

فالكتابة قانون السّياسة، ورتبتها غاية رتب الرّياسة؛ عندها تقف الإنافة، وإليها تنتهي مناصب الدّنيا بعد الخلافة؛ والكتّاب عيون الملوك المبصرة وآذانهم الواعية، وألسنتهم النّاطقة وعقولهم الحاوية، بل محض الحقّ الذي لا تدخله الشّكوك؛ وإن الملوك إلى الكتّاب أحوج من الكتّاب إلى الملوك؛ وناهيك بالكتابة شرفا، وأعل بذلك رتبة وكفى، أنّ صاحب السّيف والعلم يزاحم الكاتب في قلمه، ولا يزاحم الكاتب صاحب السّيف والعلم في سيفه وعلمه.

وعلى الجملة فهم الحاوون لكلّ وصف جميل، وشأن نبيل؛ الكرم شعارهم، والحلم دثارهم، والجود جادّتهم، والخير عادتهم، والأدب مركبهم، واللّطف مذهبهم؛ ولله القائل:

وشمول كأنّما اعتصروها ... من معاني شمائل الكتّاب!

فلما انقضى قيله، وبانت سبيله، قلت: لقد ذكرت قوما راقني وصفهم، وشاقني لطفهم، ودعاني طيب حديثهم، وحسن أوصافهم، وجميل نعوتهم، إلى أن أحلّ بناديهم وأنزل بواديهم، فأجعل حرفتهم كسبي، وصنعتهم دأبي، ليجتمع بالعلم شملي، ويتّصل بالاشتغال حبلي، فأكون قد ظفرت بمنيتي، وفزت ببغيتي، فأي قبيل من الكتّاب أردت؟ وإلى أيّ نوع من الكتابة أشرت؟ أكتابة الأموال؟ أم كتابة الإنشاء والخطابة؟، أم غيرهما من أنواع الكتابة؟ فنظر إليّ متبسّما، وأنشد مترنّما:

قوم إذا أخذوا الأقلام من غضب ... ثم استمدّوا بها ماء المنيّات

<<  <  ج: ص:  >  >>