في أثرهم، وأتيني بخبرهم؛ فمعنت في طلبهم، وعادت بهم، فقالت: ما زلت أخندف في اتّباعهم، حتى ظفرت بلقائهم، فقال لها اليأس: أنت خندف.
والخندفة في الاتّباع، تقارب الخطو في إسراع؛ وقال عمرو: يا أبتي أنا أدركت الصّيد فلويته، فقال له: أنت مدركة إذ حويته. وقال عامر أنا طبحته وشويته. فقال له: أنت طابخة إذ شويته. فقال عمير: أنا انقمعت في الخباء، فقال له: أنت قمعة للاختباء؛ فلصقت بها وبهم هذه الألقاب، وجرت بها إليهم الأنساب.
فقال حينئذ: هذا علم استفدته، وفضل استزدته؛ وقد قال الحكيم:
مذاكرة ذوي الألباب؛ نماء في الآداب؛ فقلت له متمثّلا.
أقول له والرّمح يأطر متنه ... تأمّل خفافا: إنّني أنا ذلكا!
ثم لم يحتبس إلا قليلا، ولم يمسك طويلا، حتى عاد إلى هديره، وأخذ في تهذيره، طمعا بأن يأخذ بالثّار، ويعود الفيض له في القمار، فعدل عن العلوم النّسبيّة، وجال في ميدان العربيّة، ولم يحسّ أن باعه فيها أقصر، وطرفه دون حقائقها أحسر، فقال: حضرت يوما حلبة من حلبات العلوم، وموسما من مواسم المنثور والمنظوم، وقد غصّ بكلّ خطيب مصقع، وحكم مقنّع، وعالم مصدع، ومليء من كلّ عتيق صهّال، وفتيق صوّال، ومنطيق جوّال؛ فأخذوا في فنون المعارضات، وصنوف المناقضات، وسلكوا في معاني القريض، كلّ طويل عريض، حتّى أخذ السّائل منهم بالمخنّق، ببيت [الفرزدق]«١» .
وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلّا مسحتا أو مجلّف «٢» !
فكثر فيه الجدال، وطال المقال؛ وما منهم إلا من أجاد القياس،