وما أطيب الاقتناص بعد الشّرود، وكيف يرى موقع الوصل بعد الصّدود:
وزادني رغبة في الحبّ أن منعت ... أحبّ شيء إلى الإنسان ما منعا!
تقضي رياضات النّفوس السامية بمعاطاة كاسه، ومصافاة ناسه، لما فيهم من الفتوّة، وكمال المروّة، وصدق اللسان، وثبات الجنان، وطيب الأخلاق، وحفظ الميثاق؛ لا يعرفون غير الصّدق وإن كانوا يميلون إلى الملق، ولا يبغون بصاحبهم بديلا يعطفون عليه عطف النّسق؛ لا سيّما تعاطي صيد طيور الواجب، الذي سنّة الأكابر وجعلوا أمره من الواجب، وتشرّفت به هممهم العالية: تارة إلى السّماء، وآونة إلى مشارع الماء.
لا يتمّ سرورهم إلا برؤية تمّ كبدر التّمام، ومصباح الظّلام؛ يفرّ من ظلّه فرارا، ويريك بياض لونه وسواد منقاره شيبا ووقارا؛ ولا يداوي هموم لغبهم مثل كيّ، لأجنحته الخوافق في الخافقين نشر وطيّ، ولا تبتهج نفوسهم النّفيسة إلا بإوزّة، يزدري دلالها بالكاعب المعتزّة، ولا يطرب أسماعهم غير لغات اللّغلغة، حين تمتدّ كأنها مدامة في الزّجاجة مفرغة، ولا يؤنسهم إلا الأنيسة الأنيسة، والدّرّة النّفيسة، ولا يذهب حرجهم غير الحبرج الصّادح، المستوقف بحسنه كلّ غاد ورائح؛ تكاد قلوبهم تطير بالفرح عند رؤية النّسر الطائر، وتجبر خواطرهم بكسر ذلك الكاسر؛ إذا عاينوا عقبانا أعقبهم الفرح، ونزح عنهم التّرح، وإن كرّ كركيّ فرّ عنهم البوس، ورأوا على رأسه ذلك التّاج الذي لم يعل مثله على الرّؤوس؛ وإن عرض غرنوق غرقوا في بحار أفكارهم، وجدّوا إلى أن يقع بمجدول أوتارهم، وإن لاح ضوع كالذّهب المصوغ، ألقوه في الحبال وهو بدمه مصبوغ، وإن مرّ مرزم كالخودة الحسناء، ضربوا له الآلة الحدباء، وإن مرّ السّبيطر أجنحته كالسّحائب، جاءته المرامي من كلّ جانب، وإن عنّ عنز عمدوا إليه، حتّى يسقط في يديه؛ قد تعالوا في رتبها، وتغالوا في وصف وشيها، وجعلوا كلّ آلة