المنصور، ثم المهديّ، والبريد لا يشدّ له سرج، ولا تلجم له دابّة. ثم إن المهديّ أغزى ابنه هارون الرشيد الرّوم، وأحبّ أن لا يزال على علم قريب من خبره، فرتّب فيما بينه وبين معسكر ابنه بردا كانت تأتيه بأخباره، وتريه متجدّدات أيّامه. فلما قفل الرشيد قطع المهديّ تلك البرد؛ ودام الأمر على هذا باقي مدّته ومدّة خلافة موسى الهادي بعده. فلما كانت خلافة هارون الرّشيد، ذكر يوما حسن صنيع أبيه في البرد التي جعلها بينهما، فقال له يحيى ابن خالد: لو أمر أمير المؤمنين بإجراء البريد على ما كان عليه، كان صلاحا لملكه، فأمره به، فقرّره يحيى بن خالد، ورتّبه على ما كان عليه أيام بني أميّة، وجعل البغال في المراكز؛ وكان لا يجهّز عليه إلا الخليفة أو صاحب الخبر، ثم استمرّ على هذا؛ فلما دخل المأمون بلاد الرّوم ونزل على نهر البرذون «١» وكان الزمان حرّا، والفصل صيفا، قعد على النّهر ودلّى رجليه فيه وشرب ماءه، فاستعذبه واستبرده واستطابه، وقال لمن كان معه: ما أطيب ما شرب عليه هذا الماء؟، فقال كلّ رجل برأيه. فقال هو: أطيب ما شرب عليه هذا الماء رطب «إزاز» ، فقالوا له: يعيش أمير المؤمنين حتّى يأتي العراق ويأكل من رطبها الإزاز، فما استتمّوا كلامهم حتى أقبلت بغال البريد تحمل ألطافا فيها رطب إزاز، فأتي المأمون بها فأكل منها وأمعن وشرب من ذلك الماء، فكثر تعجّب الحاضرين منه لسعادته في أنه لم يقم من مقامه حتّى بلغ أمنيّته، على ما كان يظنّ من تعذّرها؛ فلم يقم المأمون من مقامه حتّى حمّ حمّى حادّة كانت فيها منيّته.
ثم قطع بنو بويه البريد حين علوا على الخلافة وغلبوا عليها، ليخفى على الخليفة ما يكون من أخبارهم وحركاتهم أحيان قصدهم بغداد، وكان الخليفة لا يزال يأخذ بهم على بغتة.
ثم جاءت ملوك السّلاجقة على هذا؛ وأهمّ ملوك الإسلام اختلاف