حروفا كثيرة في تأليف بعضها مع بعض استثقالا واستكراها، فلم يؤلّف بين حروف الحلق كالحاء والعين، وكذلك لم يؤلف بين الجيم والقاف، ولا بين اللام والراء، ولا بين الزاي والسين، وذلك دليل على عنايته بتأليف المتباعد المخارج دون المتقارب؛ وكيف كان الواضع يخلّ بمثل هذا الأصل الكلّي في تحسين اللغة وقد اعتنى بأمور جزئية دون ذلك! كمماثلته بين حركات الفعل في الوجود وبين حركات المصدر في النطق كالغليان، والضّربان، والنّقزان، والنّزوان، وغير ذلك مما يجري هذا المجرى، فإن جميع حروفه متحركات ليس فيها حرف ساكن، وهي مماثلة لحركات الفعل في والوجود.
ومن نظر في حكمة وضع هذه اللغة إلى هذه الدقائق التي هي كالأطراف والحواشي فكيف كان يخلّ بالأصل المعوّل عليه في تأليف الحروف بعضها إلى بعض!. على أنه لو أراد الناظم أو الناثر أن يعتبر مخارج الحروف عند استعمال الألفاظ، أهي متباعدة أو متقاربة، لطال الخطب في ذلك وعسر، ولما كان الشاعر ينظم قصيدا، ولا الكاتب ينشيء كتابا إلا في مدّة طويلة، والأمر بخلاف ذلك، فإن حاسّة السمع هي الحاكمة في هذا المقام في تحسين لفظ وتقبيح آخر؛ على أنه قد يجيء من المتقارب المخارج ما هو حسن رائق، ألا ترى أن الحروف الشّجريّة، وهي الجيم والشين والياء، متقاربة المخارج لأنها تخرج من وسط اللسان بينه وبين الحنك، وإذا ترتب منها لفظ جاء حسنا رائقا، فإن لفظة جيش قد اجتمع فيها الحروف الشّجريّة الثلاثة، وهي مع تقارب مخارجها حسنة رائقة؛ وكذلك الحروف الشّفهية وهي الباء والميم والفاء متقاربة المخارج، فإن مخرج جميعها من الشّفة؛ وإذا ترتب منها لفظ جاء سلسا غير متنافر، كقولك أكلت بفمي، وهو في غاية الحسن، والحروف الثلاثة الشفهية مع تقارب مخارجها مجتمعة فيها؛ وقد يجيء من المتباعد المخارج ما هو قبيح متنافر، كقولك: ملع بمعنى عدا، فإن الميم من الشفة، والعين من حروف الحلق، واللام من وسط اللسان؛ فهذه الحروف كلها متباعدة من بعضها ومع ذلك فإنها كريهة الاستعمال، ينبو عنها الذوق السليم، ولو كان التباعد سببا للحسن لما كان سببا للقبح؛ على أنه لو عكست