وموافقة أواخره لمباديه، مع قلّة ضروراته بل عدمها أصلا، حتّى لا يكون لها في الألفاظ أثر، فتجد المنظوم مثل المنثور في سهولة مطلعه، وجودة مقطعه، وحسن رصفه وتأليفه، وكمال صوغه وتركيبه؛ فإذا كان الكلام قد جمع العذوبة والجزالة والسّهولة والرّصانة مع السّلاسة والنّصاعة، واشتمل على الرّونق والطّلاوة، وسلم من ضعف التأليف، وبعد من سماجة التركيب، صار بالقبول حقيقا، وبالتحفّظ خليقا؛ فإذا ورد على السمع المصيب استوعبه ولم يمجّه، والنفس تقبل اللطيف، وتنبو عن الغليظ، وتقلق عن الجاسي «١» البشع؛ وجميع جوارح البدن وحواسّه تسكن إلى ما يوافقه وتنفر عما يضادّه ويخالفه؛ والعين تألف الحسن، وتقذى بالقبيح؛ والأنف يرتاح للطّيب ويعاف المنتن؛ والفم يلتذّ بالحلو، ويمجّ المرّ؛ والسمع يتشوّق للصوت الرائع، وينزوي عن الجهير الهائل؛ واليد تنعم بالليّن، وتتأذّى بالخشن؛ والفهم يأنس من الكلام بالمعروف، ويسكن إلى المألوف، ويصغى إلى الصواب، ويهرب من المحال، وينقبض عن الوخم «٢» ، ويتأخّر عن الجافي الغليظ، ولا يقبل الكلام المضطرب إلا الفهم المضطرب والرويّة الفاسدة.
قال: وليس الشأن في إيراد المعاني لأن المعاني يعرفها العربيّ والأعجميّ، والقرويّ والبدويّ، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه، وحسنه وبهائه، ونزاهته ونقائه، وكثرة طلاوته ومائه، وصحة السبك والتركيب، والخلوّ من أود «٣» النظم والتأليف؛ وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صوابا، ولا يقنع من اللفظ بذلك حتّى يكون على ما وصف من نعوته التي تقدّمت. ألا ترى أن الخطب الرائعة، والأشعار الرائقة، لم تعمل لإفهام المعاني فقط، لأن الرديء من الألفاظ يقوم مقام الجيد منها في الإفهام؛ وإنما يدلّ حسن الكلام، وإحكام صنعته، ورونق ألفاظه، وجودة مقاطعه، وبديع مباديه، وغريب مبانيه، على فضل قائله ومنشيه. وأيضا فإن