فى تركها، طاعة منها له، ونظرا منها لأنفسها ولمن بعدها من سائر أهل ملتها، حتى درست من الأمة معرفتها وعفت آثارها، فلا سبيل اليوم لأحد إلى القراءة بها لدثورها وعفو آثارها. فإن قال من ضعفت معرفته: وكيف جاز لهم ترك قراءة أقرأهم إياها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأمرهم بقراءتها؟ قيل: إن أمره إياهم بذلك لم يكن أمر إيجاب وفرض، وإنما كان أمر إباحة ورخصة.
الثانية: وهى تتصل برسم المصحف وبقائه فترة غير منقوط ولا مشكول إلى زمن عبد الملك، حين قام الحجاج بإسناد هذا إلى رجلين، هما: يحيى بن يعمر والحسن البصرى، فنقطاه وشكلاه.
ولقد حفظ الله كتابه بالحفظة القارئين أكثر مما حفظه بالكتاب الكاتبين، ثم كانت إلى جانب الحفظ حجة أخرى على الرسم، وهى لغة العرب أقامت الرسم لتدعيم الحفظ ولم تقم الحفظ لتدعيم الرسم. وكان هذا ما عناه عثمان: أرى فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها. ولقد أقامته العرب بألسنتها وتركت الرسم على حاله ممثلا فى مصحفه الإمام الذى كان حريصا على أن تجتمع عليه الأمة الإسلامية، من أجل ذلك أحرق ما سواه.
وكان أول شىء عمله الحجاج، بعد ما فرغ من نقط المصحف وشكله، أن وكل إلى عاصم الجحدرى، وناجية بن رمح، وعلى بن أصمع، أن يتتبعوا المصاحف وأن يقطعوا كل مصحف يجدونه مخالفا لمصحف عثمان، وأن يعطوا صاحبه ستين درهما. وفى ذلك يقول الشاعر:
وإلا رسوم الدار قفرا كأنها ... كتاب محاه الباهلى ابن أصمعا
ونحن اليوم فى أيدينا هذا المصحف الإمام أقوم ما يكون ضبطا، وأصح ما يكون شكلا، فما أغنانا به عن كل قراءة لا يحملها رسمه، ولا يشير إليها ضبطه، من تلك القراءات التى كانت تلك حالها التى بسطتها لك.