حين يستشار ويشير. والنفس إن ملكت الصدق والأمانة ملكت ما بعدهما من كل ما هو محمود من الصفات، وهكذا كان محمد قبل أن يبعثه الله رسولا.
ولقد حبّب إلى محمد التحنث والتحنف شأن الصادفين عن متاع الحياة، العازفين عن لينها المفضى إلى الاستنامة إليها، فكان يعتكف فى حراء- جبل من جبال مكة على ثلاثة أميال منها- شهرا من كل سنة، يجعله خالصا لعبادة ربه على ما رسم إبراهيم، ومن بعده إسماعيل عليهما السلام.
وبقى محمد على هذا الذى أخذ به نفسه يختلف إلى غار حراء شهرا من كل عام، إلى أن كانت السنة التى اختاره الله فيها رسولا لرسالته، وكان عندها فى الأربعين من عمره.
وهكذا كان محمد حين دبت قدماه على أرض مكة من الجزيرة العربية محط الأبصار، وشغل الأفكار، حاطه ربه باليمين وليدا، إيذانا منه لعباده بما سيؤهله له، وصانه عن اللهو العابث صبيّا ليرتفع به عما يتدنى فيه غيره كى يمهد لإجلاله، وأجرى الصدق على لسانه، وبسط بالأمانة يديه، وملأ بالرحمة قلبه، وبالحكمة رأسه، ليرى الناس فيه ما يفقدون من صفات فيلتفوا حوله اليوم تمهيدا لالتفافهم حوله فى غد.
وحين استوى محمد شابّا، واستوت باستوائه صفات الكمال كلها فيه، رأى الناس أنهم بين يدى عجب استعصى على عامتهم تأويله، ولم يستعص على خاصتهم من أولى الكتاب، فعرفوا أنه النبى المرتقب.
ومضى محمد فى طريقه المرسوم يهيئه الله لتلقى ما سوف يوحى به إليه.
فغدا لا يرى فى منامه رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح، وغدت الخلوة