للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما الإعجاز المتعلق بصرف الناس عن معارضته فظاهر أيضا إذا اعتبر، وذلك أنه ما من صناعة محمودة كانت أو مذمومة إلا وبينها وبين قوم مناسبات واتفاقات جميلة، بدليل أن الواحد يؤثر حرفة من الحرف فينشرح صدره بملابستها وتطيعه قواه فى مباشرتها، فيقبلها بانشراح صدره ويزاولها باتساع قلبه، فلما دعا اللَّه أهل البلاغة والخطابة الذين يهيمون فى كل واد من المعانى بسلاطة لسانهم إلى معارضة القرآن وعجزهم عن الإتيان بمثله، ولم يتصدّوا لمعارضته، لم يخف على أولى الألباب أن صارفا إليها صرفهم عن ذلك، وأىّ إعجاز أعظم من أن يكون كافة البلغاء عجزت فى الظاهر عن معارضته مصروفة فى الباطن عنها.

وإعجاز القرآن يدرك ولا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها، وكالملاحة كما يدرك طيب النغم العارض لهذا الصوت ولا يدرك تحصيله لغير ذوى الفطرة السليمة إلا بإتقان علمى المعانى والبيان والتمرين فيهما.

ولقد سئل بندار الفارسى عن موضع الإعجاز من القرآن فقال: هذه مسألة فيها حيف على المعنى، وذلك أنه شبيه بقولك: ما موضع الإنسان من الإنسان؟ فليس للإنسان موضع من الإنسان، بل متى أشرت إلى جملته فقد حققته ودللت على ذاته، كذلك القرآن لشرفه لا يشار إلى شىء منه إلا وكان ذلك المعنى آية فى نفسه ومعجزة لمحاوله وهدى لقائله، وليس فى طاقة البشر الإحاطة بأغراض اللَّه فى كلامه وأسراره فى كتابه، فلذلك حارت العقول وتاهت البصائر عنده. وذهب الأكثرون من علماء النظر إلى وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة، لكن صعب عليهم تفصيلها وصغوا فيه إلى حكم الذوق.

والتحقيق أن أجناس الكلام مختلفة ومراتبها فى درجات البيان متفاوتة.

وفمنها: التبليغ الرصين الجزل.

ومنها: الفصيح القريب السهل.

ومنها: الجائز المنطلق الرسل. وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود.

فالأول أعلاها، والثانى أوسطها، والثالث أدناها وأقربها.

فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، وأخذت

<<  <  ج: ص:  >  >>