للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وهذا من علامات نبوته - صلى الله عليه وسلم -، فقد وقعت الفتن كما أخبر - صلى الله عليه وسلم -، ومن أخطر وأعظم تلك الفتن: الفتنة التي حدثت في عهد سيدنا عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، بخروج الخارجين عليه، مما أدّى إلى مَقْتله - رضي الله عنه -، وحدوث ما حدث مِمَّا لا يخفى، ومِنْ الفتن أيضًا ما وقع بين عبد الله بن الزُّبير - رضي الله عنه -، وخلفاء بني أُمية، وكانت بدايتها بعد تَوَلّي يزيد بن مُعاوية الخلافة، وظلت حتى مَقتل ابن الزُّبير في عهد عبد الملك بن مروان؛ حيث كان ابن الزُّبير يَرَى أنه ليس هناك حَقٌ ليزيد ومن جاء بعده بالخلافة، لأنهم غَيّروا أمر الخلافة من الشورى إلى التَوْريث، فكان يرى أنه لا بد من مقاتلتهم إنكارًا للمُنكر، ومُناصرة للحق، لذا لم يبايعهم على الخلافة، لكن بعد وفاة معاوية بن يزيد وقعت البيعة لابن الزُّبير، وأصبح هو الخليفة الشرعي للمسلمين لمبايعة الأغلبية له، إلا أن مَرْوان بن الحَكَم بعد مُؤتمر "الجابية" خَرَج عليه، وشَقّ عصا المسلمين، فرأى ابن الزبير وجوب مُقاتلته. (١)

وفي وسط تلك الفتنة الهائجة والتي حدث بسببها ما حدث، ووقع على إثرها ما وقع، مِن إراقة للدِماء، والقتال في الأشهر الحُرم، ووقوعه في الحَرم، وهدم الكعبة، وحَرْقِها، نجد بعض الصحابة أيد ابن الزبير على ما فعل، مِنْهم الحُسين بن علي - رضي الله عنه -، لكن المُؤيدين مِنْ الصحابة قِلَّة؛ بينما نجد الأكثرين مِنْ الصحابة، كابن عُمر - رضي الله عنه -، وسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، وغيرهما، كانوا يَرون اعتزال تلك الفتن، وعدم المشاركة في القتال فيها.

قال ابن حجر: وكان رأي ابن عُمَرَ ترك القتال في الفتنة ولو ظَهَرَ أَنَّ إحدى الطَّائِفَتَيْنِ مُحِقَّةٌ والأُخْرى مُبْطِلَةٌ.

قلتُ: فابن عُمر - رضي الله عنه - يَرى الاعتزال في الفتن حتى يَجْتمع المسلمون، فمن وقع له الإجماع بايعه، ولا شَكَّ أنَّه مِمَّن يُقتدى به. قال الثوري: يُقْتَدى بعُمر بن الخطاب في الجماعة، وبابنه في الفرقة. (٢)

ثُمَّ يقول ابن حجر: وقيل الفتنةُ مُخْتَصَّةٌ بما إذا وقع القتالُ بسبب التَّغَالُبِ في طَلَبِ المُلْكِ، وأمَّا إذا عُلِمَتِ الباغيةُ فلا تُسَمَّى فِتْنَةً، وتجبُ مُقَاتَلَتُهَا حتى ترجع إلى الطَّاعة، وهذا قَول الجُمْهُور.

وقال أيضاً: والحديث فيه التَّحْذِيرُ مِنَ الفِتْنَةِ، والحثُّ على اجتناب الدُّخُولِ فيها، وأنَّ شَرَّهَا يكون بحسب التَّعَلُّقِ بها، والمراد بالفتنة: ما يَنْشَأُ عن الاختلاف في طَلَبِ المُلْكِ، حيث لا يُعلم المُحِقُّ مِنَ المُبْطِلِ.

قال الطَّبَرِيُّ: اختلف السَّلَفُ فَحَمَلَ ذلك بعضهم على العُمُومِ وهم مَنْ قَعَدَ عن الدُّخُولِ في القتال بين المسلمين مطلقًا كسعدٍ وابن عُمَرَ وَمحمد بن مسلمة وأبي بَكْرَةَ وآخرين، وتمسكوا بِالظَّوَاهِرِ المذكورة وغيرها؛ ثُمَّ اختلف هؤلاء، فقالت طائفةٌ: بِلُزُومِ البُيُوتِ، وقالت طائفةٌ: بل بالتَّحَوُّل عن بلد الفتن أصلا؛ ثُمَّ اختلفوا، فمنهم من قال: إذا هَجَمَ عليه شَيْءٌ مِنْ ذلك يَكُفُّ يده، ولو قُتِلَ، ومنهم مَنْ قال: بل يُدَافِعُ عن نفسه وعن ماله وعن أهله وهو معذورٌ إن قَتَلَ أو قُتِلَ، وقال آخَرُونَ: إذا بَغَتْ طَائِفَةٌ على الإمام فامتنعت من الواجب عليها، ونصبت الحرب وجبَ قتالها، وكذلك لو تَحَارَبَتْ طَائِفَتَانِ وَجَبَ على كُلِّ قادرٍ الأخذ على يَدِ المُخْطِئِ وَنَصْرُ المُصِيب، وهذا قول الجُمْهُور؛ وفصَّلَ آخَرُونَ، فقالوا: كُلُّ قِتَالٍ وَقَعَ بين طَائِفَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ حَيْثُ لا إِمَامَ للجَمَاعَةِ فَالْقِتَالُ حِينَئِذٍ


(١) يُنظر في تفصيل ذلك: "التاريخ" لخليفة بن خياط ٢٥١ - ٢٧٥، "تاريخ الطبري" ٣٣٨ - ١٩٠، "البداية والنهاية" ١١/ ٤٦٥، ١٢/ ٢٢٧، "خلافة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير" د/ علي الصَلَّابي ص/ ٣٥ - ١٤٠.
(٢) يُنظر: "تذكرة الحُفَّاظ"١/ ٣٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>