للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

. . . . . . . . . .. . . . . . . . . . .


قلتُ: فالحديث رواه سعيد بن زَرْبي وكنَّاه أبو صالح الحرَّاني بأبي عُبيدة، ولم يروه عن أبي مُعاوية العبَّاداني إلا علي بن الجعد، وكما نرى فلم يُفَرِّق الدَّارقطني والخطيب البغدادي بينهما، واعتبراهما راوياً واحداً، بينما سلك أبو نُعيم مسلك شيخه الطبراني - كما سبق في الحديث الأول - في التفرقة بين أبي مُعاوية العبَّاداني وأبي عُبَيْدة سعيد بن زَرْبي، واعتبرهما راويان، ويؤكد ذلك أيضاً أنَّ أبا نُعيم أخرج حديثاً بسنده في "الحلية" (٢/ ١٦٠) مِن طريق أبي عُبيدة عن الحسن، فعقَّب عليه بقوله: وأبو عُبيدة هو سعيد بن زَرْبي. وأمَّا البزار فلم أستطع قراءة رأيه في ذلك، لأنَّه لم يَتَبَيَّن لي: هل اطلع البزار على رواية ابن الجعد عن أبي مُعاوية العبَّاداني، أم لا؟! فإن كان اطلع عليها - وهو الأقرب - فهو بذلك لم يُفرق بينهما. …
وقال البغوي: حدَّثنا عليٌّ، أخبرني أبو مُعَاوِيَة، عن ثابت، عن أنس، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أُعْطِيَ أَبُو مُوسَى مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ».
قلتُ: وهذا الحديث أخرجه العقيلي في "الضعفاء الكبير" (٢/ ١٠٧)، وابن عدي في "الكامل" (٤/ ٤٠٨)، وأبو نُعيم في "الحلية" (١/ ٢٥٨) مِن طريق مسلم بن إبراهيم عن سعيد بن زَرْبي، عن ثابتٍ، به.
وقال البغوي: وَبِهِ - أي: بالإسناد السابق - عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمْنَا الْبَصْرَةَ مَعَ أَبِي مُوسَى وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْبَصْرَةِ، فَقَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قِيلَ لَهُ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ لَوْ رَأَيْتَ إِلَى نِسْوَتِكَ وَقَرَابَتِكَ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ لِقِرَاءَتِكَ، فَقَالَ: «لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدًا يَسْمَعُ قِرَاءَتِي لَزَيَّنْتُ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى بِصَوْتِي وَلَحَبَّرْتُهُ تَحْبِيرًا».
قلتُ: وأخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (٣٢/ ٨٤) مِن طريق البغوي عن علي بن الجعد، به.
خلاصة ما سبق ذكره: مِن خلال ما سبق عرضه نستخلص النتائج الآتية:
هناك أربعةٌ مِن الرواة يجب أنْ نذكرهم أولاً، وهم:
سعيد بن زَرْبي أبو عُبيدة صاحب الموعظة، يَروي عن مُجاهد، وأقل أحواله كما قال ابن حبَّان: صدوقٌ.
سعيد بن زَرْبي أبو عُبيدة أو أبو مُعاوية، يَروي عن ثابتٍ وأبي المليح، وهو ضَعيفٌ.
أبو عاصم العبَّاداني، وليس هو سَعيد بن زَرْبي، وإنَّما هو عبد الله بن عُبيد الله أو العكس، وكان واعظاً، ليِّن الحديث.
أبو مُعاوية العبَّاداني، يَروي عن ثابتٍ وأبي المليح، ويروي عنه علي بن الجَعْد ولم يُسمِّه.
والراجح مِن أقوال أهل العلم: أنَّ سعيد بن زَرْبي الذي يروي عن مُجاهد ليس هو سَعيد بن زَرْبي الذي يروي عن ثابتٍ وأبي المليح، فالأول ثقةٌ، والثاني ضَعيفٌ، وقد خلط البعض بينهما كما قال ابن حجر.
والراجح أيضاً: أنَّ أبا عاصم العبَّاداني ليس هو سعيد بن زَرْبي، وقد جمع البعض بينهما وأنكر ذلك ابن معين وفرَّق بينهما، وتبعه على ذلك غير واحد مِن أهل العلم، مِنهم: ابن حجر وغيره.
لكن يبقى الخلاف حول: هل أبو معاوية العبَّاداني هو سعيد بن زَرْبي الضعيف، فكلاهما يروي عن ثابتٍ وأبي المليح وغيرهما؟! فاختلف العلماء في ذلك: ففرَّق البعض بينهما، وجمع بينهما آخرون.
سعيد بن زَرْبي الضعيف: كنَّاه إبراهيم بن الجُنيد والدُّولابي بأبي عُبيدة. وكنَّاه البخاري ومُسلمٌ وأبو حاتم والنَّسائي وابن أبي حاتم وأبو أحمد العسكري والعقيلي والدَّارقطني: بأبي مُعاوية. بينما جمع ابن حبَّان وابن الجوزي والذهبي ومُغلطاي وابن حجر بين الكنيتين معاً. وذكر البخاري وابن حبَّان والدَّارقطني والذهبي بأنَّه: بَصْري. وذكر أبو حاتم وابن أبي حاتم والعسكري بأنَّه: عبَّاداني. بينما جمع ابن الجوزي والمقدسي والمزي وابن حجر بينهما البصري والعبَّاداني.
وذهب ابن عدي وحده - على حد بحثي - إلى ترجيح أبي عُبيدة وخطَّأ مَن كنَّاه بأبي معاوية، وذلك لأنَّه فرَّق بين سعيد بن زربي وأبي معاوية العبَّاداني: فجعل سعيد بن زربي بَصْري فقط وليس عبَّاداني، وكنيته أبو عُبَيْدة. …
وقد صرَّح غير واحد مِن أهل العلم بأنَّ سَعيد بن زَرْبي هو: أبو مُعاوية العبَّاداني، ولم يُفَرِّقوا بينهما منهم: أبو حاتم في "العلل"، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"، وأبو أحمد العسكري في "تصحيفات المحدِّثين"، والبغوي في "الجعديات"، والدَّارقطني في "الغرائب"، والخطيب البغدادي في "الموضح لأوهام الجمع والتفريق"، والمزي في "التحفة"، ومُغْلطاي في "الإكمال"، وابن حجر في "التقريب". وهذا هو الظاهر مِن صنيع جمهور أهل العلم كالبخاري وابن حبَّان والمزي وغيرهم.
بينما نجد الظاهر مِنْ صنيع الإمام الطبراني وتلميذه أبي نُعيم أنَّهما يُفَرِّقان بينهما. وهذا هو ما صرَّح به ابن عدي، فجعل سعيد بن زَرْبي أبو عُبَيْدة البَصْري وخطأ مَنْ كنَّاه بأبي مُعَاوية، وأمَّا أبو مُعاوية فهو العبَّاداني، وكلاهما يروي عن ثابتٍ وأبي المليح، لكنَّ البَصْري يروي عنه مُسلم بن إبراهيم وغيره، والعبَّاداني يَروي عنه علي بن الجَعْد.
واعتمد البغوي في عدم التفريق على أنَّ الأحاديث التي رواها أبو مُعاوية العبَّاداني هي الأحاديث التي رواها سعيد بن زربي، وقد سبق ذكرها ودراستها. لكن تعقبه ابن عدي بأنَّ بعض هذه الأحاديث قد جمع فيها الرواة بين اسم سعيد وتكنيته بأبي عُبيدة، وأمَّا علي بن الجعد فهو وحده يذكره بأبي معاوية العبَّاداني، فكيف يجعلهما واحداً وهذا عبَّاداني، وهذا بصري، وخطَّأ البغوي في ذلك. فجاء الحافظ ابن حجر وتعقَّب ابن عدي في قوله ذلك، فقال: وليس ما جزم به من خطأ البغوي في ذلك بلازم. قلتُ: لأنَّه لا مانع أنْ تكون للراوي كنيتان، لذا ذكره البعض بالبصري، والبعض بالعبَّاداني، وجمع البعض بينهما. …
قلتُ - والله أعلم -: وعليه فلعلَّ الأقرب إلى الصواب هو ما اعتمده ابن حجر بأنَّ أبا مُعاوية العبَّاداني هو: سعيد بن زَرْبي. وعلى كلٍ فكلاهما ضَعيفٌ، فأينما دار الحديث دار على ضَعيفٍ. ألا أنَّ ثَمرته تظهر عند التقوية بالمتابعات؛ فيصلح تقوية أحدهما للآخر عند مَنْ فرَّق بينهما، ولا يصلح ذلك عند مَنْ لم يُفرق بينهما إذ لا يَصلح أنْ يكون الشخص مُتابعاً لنفسه.

<<  <  ج: ص:  >  >>