للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالُوا: لَمَّا كَانَتْ الْأَحْبَاسُ تُخْرَجُ إلَى غَيْرِ مَالِكٍ: بَطَلَ ذَلِكَ، كَمَنْ قَالَ: أَخْرَجْتُ دَارِي عَنْ مِلْكِي.

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذِهِ وَسَاوِسُ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لَيْسَ إخْرَاجًا إلَى غَيْرِ مَالِك، بَلْ إلَى أَجْلِ الْمَالِكِينَ - وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى - كَعِتْقِ الْعَبْدِ وَلَا فَرْقَ.

ثُمَّ قَدْ تَنَاقَضُوا فَأَجَازُوا تَحْبِيسَ الْمَسْجِدِ، وَالْمَقْبَرَةِ، وَإِخْرَاجَهُمَا إلَى غَيْرِ مَالِكٍ، وَأَجَازُوا الْحَبْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي أَشْهَرِ أَقْوَالِهِمْ، فَبَلَّحُوا عِنْدَ هَذِهِ فَقَالُوا: الْمَسْجِدُ إخْرَاجٌ إلَى الْمُصَلِّينَ فِيهِ.

فَقُلْنَا: كَذَبْتُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ بِذَلِكَ، وَصَلَاتُهُمْ فِيهِ كَصَلَاتِهِمْ فِي طَرِيقِهِمْ فِي فَضَاءٍ مُتَمَلَّكٍ وَلَا فَرْقَ.

وَقَالُوا: إنَّمَا خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِي إلَى غَيْرِ مَالِكٍ وَلَا فَرْقَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلُ نَظِيرُ الْحَبْسِ عِنْدَكُمْ فِي الْحَيَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَظِيرُهُ فِي الْمَوْتِ وَلَا فَرْقَ.

وَقَالُوا: لَمَّا كَانَتْ الصَّدَقَاتُ لَا تَجُوزُ إلَّا حَتَّى تُحَازَ، وَكَانَ الْحَبْسُ لَا مَالِكَ لَهُ: وَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ.

فَقُلْنَا: هَذَا احْتِجَاجٌ لِلْخَطَأِ بِالْخَطَأِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَا قَوْلَكُمْ: أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَصِحُّ حَتَّى تُقْبَضَ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ رَأْيٌ مِنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَدْ خَالَفَهُمَا غَيْرُهُمَا فِيهِ، كَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَكَيْفَ وَالْحَبْسُ خَارِجٌ إلَى قَبْضِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ، الَّذِي هُوَ وَارِثُ الْأَرْضِ وَمَنْ عَلَيْهَا وَكُلُّ شَيْءٍ بِيَدِهِ وَفِي قَبْضَتِهِ.

وَقَدْ أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَةَ أَبِي طَلْحَةَ لِلَّهِ تَعَالَى دُونَ أَنْ يَذْكُرَ مُتَصَدَّقًا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يَجْعَلَهَا فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا الْمُخْزِيَةِ لَهُمْ: احْتِجَاجُهُمْ فِي هَذَا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاقَ الْهَدْيَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ وَقَلَّدَهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي إيجَابَهُ لَهُ، ثُمَّ صَرَفَهَا عَمَّا أَوْجَبَهَا لَهُ وَجَعَلَهَا لِلْإِحْصَارِ، وَلِذَلِكَ أَبْدَلَهَا عَامًا ثَانِيًا.

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: أَوَّلُ ذَلِكَ كَذِبُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ، وَهَذَا يَقْتَضِي إيجَابَهُ لَهُ وَمَا اقْتَضَى

<<  <  ج: ص:  >  >>