للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَدْخَلَ فِي مَخَازِي الْقِيَاسِ وَسَخَافَاتِهِ؛ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا عُضْوٌ مَسْتُورٌ لَا يُقْطَعُ، وَقَبْلُ وَبَعْدُ فَمَا صَحَّ قَطُّ أَنْ لَا قَطْعَ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَهُوَ بَاطِلٌ مُتَيَقَّنٌ عَلَى بَاطِلٍ، وَخَطَأٌ مُشَبَّهٌ بِخَطَأٍ - فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ الْفَاسِدُ.

وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَقَاسُوهُ عَلَى قَطْعِ الْيَدِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي سُقُوطِ هَذَا الْقَوْلِ آنِفًا.

وَمَا جَاءَ نَصٌّ قَطُّ بِأَنْ لَا قَطْعَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، إنَّمَا صَحَّ النَّصُّ «لَا قَطْعَ إلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» ، وَهُمْ لَا يُرَاعُونَ فِي الْقَطْعِ وَلَا فِي الصَّدَاقِ رُبْعَ دِينَارٍ فِي الْقِيمَةِ أَصْلًا، فَلَاحَ بُطْلَانُ كُلِّ مَا قَالُوهُ بِيَقِينٍ لَا إشْكَالَ فِيهِ.

وَمَوَّهَ الْمَالِكِيُّونَ أَيْضًا بِأَنْ قَالُوا: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: ٢٥] .

قَالُوا: فَلَوْ جَازَ الصَّدَاقُ بِمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ لَكَانَ كُلُّ أَحَدٍ وَاجِدَ الطَّوْلِ لِحُرَّةٍ مُؤْمِنَةٍ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَا نَدْرِي عَلَى مَا نَحْمِلُ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ قَائِلِهِ، إلَّا أَنَّنَا لَا نَشُكُّ فِي أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُ فِيهِ مِنْ الْوَرَعِ وَتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى حَاضِرٌ، لِأَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقُ الْأَمَةِ الْمُتَزَوِّجَةِ أَقَلَّ مِنْ صَدَاقِ الْحُرَّةِ، فَكَيْفَ يُفَرَّقُونَ بَعْدَ هَذَا بَيْنَ وُجُودِ الطَّوْلِ لِنِكَاحِ حُرَّةٍ، وَبَيْنَ وُجُودِ الطَّوْلِ لِنِكَاحِ أَمَةٍ - وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ التَّمْوِيهِ فِي دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا نَدْرِي أَنَّهُ بَاطِلٌ قَاصِدِينَ إلَيْهِ عَمْدًا.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ بِمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَلَا تَكُونُ الْمُتْعَةُ فِي الطَّلَاقِ إلَّا مَحْدُودَةً؟ قُلْنَا: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَحُدَّ فِي الصَّدَاقِ حَدًّا إلَّا مَا تَرَاضَيَا بِهِ، وَحَدَّ فِي الْمُتْعَةِ فِي الطَّلَاقِ {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: ٢٣٦] فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَوْضَحُ مِنْ الشَّمْسِ عِنْدَ مَنْ لَا يَتَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَأَعْجَبُ شَيْءٍ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَظَّمَ أَمْرَ الصَّدَاقِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا؟ قُلْنَا: هَذَا الْعَجَبُ حَقًّا إنَّمَا عَظَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَ الصَّدَاقِ فِي إيجَابِ أَدَائِهِ، وَتَحْرِيمِ أَخْذِهِ بِغَيْرِ رِضَاهَا، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كُلِّ حَقٍّ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: ٧] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: ٨] .

<<  <  ج: ص:  >  >>