وَنَحْنُ نُوقِنُ - بِلَا شَكٍّ - أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يَتَحَيَّلُ فِي إسْقَاطِ حَقٍّ أَوْجَبَهُ رَبُّهُ تَعَالَى لِلْمُعْتَقَةِ - فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهِ بِيَقِينٍ لَا إشْكَالَ فِيهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَا يَحِلُّ فَسْخُ عَقْدِ نِكَاحٍ صَحِيحٍ إلَّا بِيَقِينٍ - فَصَدَقُوا، وَلَوْلَا الْيَقِينُ مَا قُلْنَا بِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ أَصْحَابِ الْقِيَاسِ: إنَّمَا جُعِلَ لَهَا الْخِيَارُ تَحْتَ الْعَبْدِ لِفَضْلِ الْحُرِّيَّةِ عَلَى الرِّقِّ - فَهَذِهِ دَعْوَى كَاذِبَةٌ، لَا يَجِدُونَهَا أَبَدًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى أَنْ نَنْسُبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ أَمْرَ كَذَا مِنْ أَجْلِ أَمْرِ كَذَا، مِمَّا لَمْ يُخْبِرْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَلَا رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أَلَا إنَّ هَذَا لَهُوَ الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بِلَا شَكٍّ وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ؟
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: فَلَمْ يَبْقَ إلَّا تَعَارُضُ الرِّوَايَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا إذْ أُعْتِقَتْ، لِلرِّوَايَةِ عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ " كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ حُرًّا إذْ أُعْتِقَتْ ".
وَكِلَا الرِّوَايَتَيْنِ صَحِيحَةٌ، لَا سِيَّمَا رِوَايَةَ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَتُعَارِضُ الرِّوَايَةَ عَنْ عُرْوَةَ فِي ذَلِكَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُعَارِضٌ لِرِوَايَةِ الْقَاسِمِ، فَوَجَدْنَا كُلَّ ذَلِكَ مُتَّفَقًا لَا تَكَاذُبَ فِيهِ، وَمَا دَامَ يُمْكِنُ تَأْلِيفُ رِوَايَاتِ الثِّقَاتِ فَلَا يَحِلُّ أَنْ يُنْسَبَ الْكَذِبُ إلَى بَعْضِهِمْ، أَوْ الْوَهْمُ.
فَاعْلَمُوا أَنَّ مَنْ قَالَ: كَانَ عَبْدًا، وَمَنْ قَالَ: كَانَ حُرًّا، يَصِحُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا قَبْلُ ثُمَّ أُعْتِقَ، فَصَارَ حُرًّا، إلَّا أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ هَذَا فِي الرِّوَايَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا حِينَ أُعْتِقَتْ، لَكِنَّهُ يَخْرُجُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَدْرِيهِ عَبْدًا، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِحُرِّيَّتِهِ.
وَرَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَا كَانَ فِي عِلْمِهَا مِنْ الزِّيَادَةِ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا حِينَ أُعْتِقَتْ - وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: وَلَوْ كَانَ حُرًّا مَا خَيَّرَهَا: أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ مَنْ دُونَهَا - فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهَا قَوْلٌ بِظَنٍّ؟
وَلَا يَخْتَلِفُ مَالِكِيٌّ، وَلَا شَافِعِيٌّ، وَلَا حَنْبَلِيٌّ، وَلَا ظَاهِرِيٌّ، فِي أَنَّ عَدْلَيْنِ لَوْ شَهِدَا بِأَنَّ هَذَا نَعْرِفُهُ عَبْدًا مَمْلُوكًا، وَشَهِدَ عَدْلَانِ آخَرَانِ: أَنَّنَا نَدْرِيهِ حُرًّا، فَإِنَّ الْحُكْمَ يَجِبُ بِقَوْلِ مَنْ شَهِدَ الْحُرِّيَّةَ، لِأَنَّهُ شَهِدَ بِفَضْلِ عِلْمٍ كَانَ عِنْدَهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute