التّجربة، ومن أسباب السّلامة الانتباه بالعبر، والاستدلال بما كان على ما يكون.
وأنت امرؤ جرت لك وعليك أنحاء من النعم، وأنحاء من الحجج، عرفت بها ما لك وعليك، فإن تأخذ بها، عرفت كيف تسلك مسالكه، وإن تدع الأخذ بذلك، تدعه على علم. وقد رأيت الذي انقادت لك به النّعمة، ووهبت لك به العافية، فيما ألهمك الله من طاعة ولاة أمورك، والصبر لها على مواطن الحقّ التي رفع الله بها ذكرك، وأحسن عليها عقباك وذخرك، فلم تمض بك في طاعتهم رتبة، إلا قرّبك الله بها في الخير عقبة، ولا تبذل من نفسك نصحا، إلّا أوجب لك به نححا؛ ولم تفتأ تواتر ذلك، من مناصحتك وحسن طاعتك، حتّى طلت بها على من طاولك، وفضلت بها من فاضلك، وجريت ممدودا عنانك إلى قصوى غايات أملك، فأصبحت قريع المسلمين، بعد خليفة الله أمير المؤمنين، وخيرته من خلقه، بعد ذوي الفضل من أهل بيته، حتّى مالك من رجالات العرب نظير في منزلة، ولا نديد في حال ولا رتبة، بل هم فيك رجلان: إما راهب منك، وإما راغب فيك.
قلت: وهذا الصنف من المكاتبات السلطانية مستمرّ الكتابة إلى زماننا. فما زالت الملوك يكتبون إلى من يتخيّلون منه خلع الطاعة من النوّاب ومن في معناهم، ويحثّونهم على لزوم الطاعة، ويحذّرونهم المخالفة والخروج عن الجماعة.
ومن ذلك ما كتب به الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي إلى متملك سيس «١» عند كسرة التتار، بعد قيامه معهم في المصافّ، ومساعدته إياهم، وهو:
بصّره الله برشده، وأراه مواقع غيّه في الإصرار على مخالفته ونقض عهده، وأسلاه بسلامة نفسه عمن روّعته السيوف الإسلامية بفقده.
صدرت تعرّفه أنه قد تحقّق ما كان من أمر العدوّ الذي دلّاه بغروره، وحمله