وأبدت به الكماة صبرها، وأظهرت فيه الحماة من الوثبات والثّبات ما يجب عليها، وبذلت فيه الأبطال من الجلاد جهدها ولكن لم يكن الظّفر إليها، وكان عليهم الإقدام على غمرات المنون، والاصطلاء بجمرات الحرب الزّبون، ولم يكن عليهم إتمام ما قدّر أنّه لا يكون، فكابرت رقاب الأعداء في ذلك الموقف السّيوف، وكاثرت أعدادهم الحتوف، وتدفّقت بحارهم على جداول من معه ولولا حكم القدر لا نتصفت تلك الآحاد من تلك الألوف، فضاق بازدحام الصفوف على رجاله المجال، وزاد العدد على الجلد فلم يفد له الإقدام على الأوجال مع قدوم الآجال، وأملي للكافرين بما قدّر لهم من الإنظار، وحصل لهم من الاستظهار، وعوّضوا بما لم يعرفوه من الإقدام عمّا ألفوه من الفرار. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض
«١» وقد ورد أنهم ينصرون كما ننصر، وإذا كانت الحروب سجالا فلا ينسب إلى من كانت عليه [وبالا]«٢» إذا اجتهد ولم يساعده القدر أنه قصّر، مع أنه قد اشتهر بما فعله في مجاله، من الذّبّ عن رجاله، وما أبداه في قتاله، من الضّرب الذي ما تروّى فيه خصمه إلّا بدره بارتجاله، وأن الرّماح التي امتدّت إليه أخرس سيفه ألسنة أسنّتها، والجياد التي أقدمت عليه جعل طعنة أكفالها مكان أعنّتها، فأثبت في مستنقع الموت رجله، ووقف وما في الموت شكّ لواقف ليحمي خيله ورجله، حتّى تحيّز أصحابه إلى مأمنهم، وأقام نفسه دونهم دريئة لمن بدر من سرعان القوم أو ظهر من مكمنهم، وهذا هو الموقف الذي قام له مقام النّصر، إذ فاته النّصراء وفاته النّصر، والمقام الذي أصيب فيه من أصحابه آحاد يدركهم أدنى العدد وفقد فيه من أعدائه مع ظهورهم ألوف لا يدركهم الحصر، [وكذا فليكن قلب]«٣» الجيش كالقلب يقوى بقوّته الجسد، وإذا حقّ اللّقاء فلا يفرّ عن كناسه إلّا الظّبي ولا يحمي [عرينه]«٤» إلّا الأسد، وما بقى إلّا أن تعفو الكلوم، وتثوب الحلوم، وتندمل الجراح، وتبرأ من فلول المضارب صدور الصّفاح،