أمّا بعد حمد الله معيد الحقّ إلى نصابه، والغيث إلى مصابّه، واللّيث- وإن غاب- إلى مستقرّ غابه، وشرف المكان إلى من هو أحقّ وأولى به، وبحر العلوم إلى دوائر محافله في الدّروس وإلى قويّ أسبابه، والصّلاة والسلام على سيدنا محمد الّذي هاجر فرجع بغنيمته وإيابه، وطلع من ثنيّات الوداع طلوع البدر المشرق في أثناء سحابه، وعلى آله وصحبه الشّائمين سبل صوبه السّالكين سبيل صوابه، ما قطف من غصون أقلام العلماء ثمر «البيان والتّبيين» متشابها وغير متشابه- فإنّ شرف الكواكب في سيرها ورجوعها، ونموّ تشعّلها ما بين فترة مغيبها وطلوعها؛ لا سيّما العلماء الذين يهتدى بأنوارهم، ويقتدى بآثارهم، ومصابيح الحقّ التي تقدح ولا يقدح في أزندة أفكارهم.
وكان من قصد بهذا التّلويح ذكره، وعرف من هذا المعنى المفهوم فخره، قد حمد بمجالس التّصدير بالجامع الأمويّ ما ذكره من سلف أعيانه، وقام بوجود الدّليل على وجود ماضي برهانه، وجادل لسانه وقلم يده عن الشّريعة: وغيره من العيّ لا من يده ولا من لسانه، ثم هجر مكانه هجرة على العذر محمولة، وهاجر إلى حرم الله تعالى وحرم رسوله صلّى الله عليه وسلّم هجرة مقبولة، ورام بعض الصّبيان التقدّم إلى رتبة الشيخ فقالت: إليك عنّي، فأنا من مخطوبات الأكابر فما أنا منك ولا أنت منّي؛ ثم حضر إلى محلّه الكريم من غاب، ورجع إلى مستقرّه الأمثل به: وما كلّ حمزة أسد الله فليسكن في ذلك الغاب.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زالت صلات مراسمه جميلة العوائد، جليلة الفوائد، وأقلامها أغصانها ممدود بها الرّزق فهي على الوصفين موائد- أن يستمرّ على عادته في كذا وكذا، وإبطال ما كتب به لغيره: عملا باختبار الحاضر، واختيار نظر الناظر، وعلما بأنّ هذه المرتبة لمن له إتقان عقلها