المعهود، قد خففوا كلّ شيء حتّى البنود والعمود، فسرنا في جبال نشتهي به سلوك الأرض، وأودية تهلك الأشواط فيها إذا ملئت الفروج من الرّكض.
نزور ديارا ما نحبّ مغناها، ولا نعرف أقصاها من أدناها، واستقبلنا الدّرب فكان كما قال المتنبّي:
رمى الدّرب بالخيل العتاق «١» إلى العدا ... وما علموا أنّ السّهام خيول
شوائل تشوال العقارب بالقنا ... لها مرح من تحته وصهيل
فلمّا تجلّى من دلوك وصنجة ... علت كلّ طود راية ورعيل
على طرق فيها على الطّرق رفعة ... وفي ذكرها عند الأنيس خمول!
ومررنا على مدينة دلوك، وهي رسوم سكّانها، ضاحكة عن تبسّم أزهارها وقهقهة غدرانها، ذات بروج مشيّدة، وأركان موطّدة، ونيران تزاويق موقدة، في عمد من كنائسها ممدّدة؛ وسرنا منها إلى مرج الدّيباج نتعادى، وذلك في ليلة ذات أندية وإن لم تكن من جمادى؛ ظلماتها مدلهمّة، وطرقاتها قد أصبح أمرها علينا غمّة؛ لا يثبت تربها تحت قدم المارّ، وكأنّما سالكها يمشي على شفا جرف هار؛ فبتنا هنالك ليلة نستحقر بالنّسبة إلى شدّتها ليلة الملسوع، وتتمنّى العين بها هجعة «٢» هجوع؛ وأخذنا في اختراق غابات أشجار تخفي الرّفيق عن رفيقه، وتشغله عن اقتفاء طريقه، ينبري منها كلّ غصن يرسله المتقدّم إلى وجه رفيقه، كما يخرج السّهم بقوّة من منجنيقه؛ حولها معاثر أحجار كأنّها قبور بعثرت، أو جبال تفطّرت، بينها مخائض، لا بل مغائض، كأنّها بحار فجّرت؛ ما خرجنا منها إلا إلى جبال قد تمنطقت بالجداول وتعمّمت بالثّلوج، وعمّيت مسالكها فلا أحد إلا وهو قائل: فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ