نحمده على نعمه التي منها البلاغة، وأتقان ما لصناعة الإنشاء من حسن الصّياغة، وصيد أوابد المعاني التي من أعمل فكره في اقتناصها أو روّى [أمن]«١» رواغه، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة فطر الضمير على إخلاصها، وجبل الفكر على افتناء أدلّتها القاطعة واقتناصها، وجعلت وقاية لقائلها يوم يضيق على الخلائق فسيح عراصها، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أفصح من نطق بهذا اللسان، وجاء من هذه اللغة العربيّة بالنّكت الحسان، وحثّ على الخير وحضّ على الإحسان، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين رووا أقواله، وبلّغوا لمن لم يره سننه وأفعاله، وعلموا أنّ هذه الشّرعة المطهّرة أذخرها الله تعالى له فلم تكن تصلح إلا له، صلاة هامية الغفران، نامية الرّضوان، ما أجاب مجيب لمن استدعى، وعملت إنّ في المبتدإ نصبا ولم تغيّر على الخبر رفعا، وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدّين.
وبعد، فإن [علم]«٢» الرّواية من محاسن الإسلام، وخصائص الفضلاء الذين تخفق لهم ذوائب الطروس وتنتصب رماح الأقلام، ولم تزل رغبة السّلف تتوفّر عليه، وتشير أنامل إرشادهم للأنام بالحثّ إليه. قيل للإمام أحمد بن حنبل- رضي الله عنه- ما يشتهي؟ فقال: سند عال، وبيت خال.
وما برح الأئمّة الكبار يرتحلون إلى أقاصي الأقاليم في طلبه، ويتحملون المشاقّ والمتاعب فيه ويتجمّلون بسببه؛ فقد ارتحل الإمام الشافعيّ رضي الله عنه وغيره إلى عبد الرّزّاق باليمن، وكان فيمن أخذ عنه ممن هو أحقّ بالتفضيل عليه قمن؛ ولكنه فنّ يحتاج إلى ذوق يعاضد من لا يعانده، وأمر لا يصبر عنه من ألفه وما يعلم الشّوق إلا من يكابده؛ فما عند من طلب الرواية أجلّ من أبناء جنسه، ولا عند المفيد المفيد أحلى من قوله: حدّثنا فلان أو انشدنا فلان لنفسه، ولكن: