فيه، ومرغوب عنه، ومتوسّط بين ذلك. على أنه قلّ أن ينفق تأليف في حياة مؤلّفه، أو يروج تصنيف على القرب من زمان مصنّفه.
قال المسعوديّ في كتابه «التّنبيه والإشراف» وقد تشترك الخواطر، وتتّفق الضمائر، وربّما كان الآخر أحسن تأليفا، وأمتن تصنيفا، لحكمة التّجارب، وخشية التّتبّع، والاحتراس من موانع المضارّ. ومن هاهنا صارت العلوم نامية، غير متناهية، لوجود الآخر ما لا يجده الأوّل، وذلك إلى غير غاية محصورة، ولا نهاية محدودة. على أنّ من شيم كثير من الناس إطراء المتقدّمين، وتعظيم كتب السّالفين، ومدح الماضي، وذمّ الباقي؛ وإن كان في كتب المحدثين ما هو أعظم فائدة، وأكثر عائدة.
ثم حكى عن الجاحظ- على جلالة قدره- أنه قال: كنت أؤلّف الكتاب الكثير المعاني، الحسن النّظم، وأنسبه إلى نفسي، فلا أرى الأسماع تصغي إليه، ولا الإرادات تتيمّم نحوه، ثم أؤلّف ما هو أنقص منه رتبة، وأقل فائدة، وأنحله عبد الله بن المقفّع، أو سهل بن هارون، أو غيرهما من المتقدّمين، ممّن صارت أسماؤهم في المصنّفين، فيقبلون على كتبها، ويسارعون إلى نسخها، لا لشيء إلا لنسبتها للمتقدّمين، ولما يداخل أهل هذا العصر من حسد من هو في عصرهم، ومنافسته على المناقب التي عني بتشييدها.
قال: وهذه طائفة لا يعبأ بها كبار الناس، وإنّما العمل على أهل النّظر والتّأمّل الذين أعطوا كلّ شيء حقّه من القول، ووفّوه قسطه من الحقّ، فلم يرفعوا المتقدّم إذا كان ناقصا، ولم ينقصوا المتأخّر إذا كان زائدا؛ فلمثل هؤلاء تصنّف العلوم، وتدوّن الكتب.
وإذا كان هذا نقل المسعوديّ عن الجاحظ الذي هو رأس المصنّفين، وعين أعيانهم، فما ظنّك بغيره؟.
لكنّي أحمد الله تعالى على رواج سوق تأليفي، ونفاق سلعته، والمسارعة إلى استكتابه قبل انقضاء تأليفه، حتّى إنّ قلمي التّأليف والنّسخ