بصيرة، ولم نعلمه قال لهم: ارجعوا إلى جميع الفصحاء، فإن عجزوا عن الإتيان بمثله فقد ثبتت حجتى، بل لما رآهم يعلمون إعجازه، ألزمهم حكمه فقبلوه وتابعوا الحق وبادروا إليه مستسلمين، ولم يشكوا فى صدقه ولم يرتابوا فى وجه دلالته، فمن كانت بصيرته أقوى ومعرفته أبلغ كان إلى القبول منه أسبق، ومن اشتبه عليه وجه الإعجاز، واشتبه عليه بعض شروط المعجزات، وأدلة النبوات، كان أبطأ إلى القبول، حتى تكاملت أسبابه واجتمعت له بصيرته وترادفت عليه مواده. ونحن نعلم تفاوت الناس فى إدراكه ومعرفة وجه دلالته، لأن الأعجمى لا يعلم أنه معجزا إلا بأن يعلم عجز العرب عنه، وهو يحتاج فى معرفة ذلك إلى أمور لا يحتاج إليها من كان من أهل صنعة الفصاحة. فإذا عرف عجز أهل الصنعة حل محلهم وجرى مجراهم فى توجه الحجة عليه.
وكذلك لا يعرف المتوسط من أهل اللسان من هذا الشأن ما يعرفه العالى فى هذه الصنعة، فربما حلّ فى ذلك محل الأعجمىّ فى أن لا يتوجه عليه الحجة حتى يعرف عجز المتناهى فى الصنعة عنه.
وكذلك لا يعرف المتناهى فى معرفة الشعر وحده أو الغاية فى معرفة الخطب أو الرسائل وحدهما غور هذا الشأن ما يعرف من استكمل معرفة جميع تصاريف الخطاب، ووجوه الكلام وطرق البراعة، فلا تكون الحجة قائمة على المختص ببعض هذه العلوم بانفرادها دون تحققه بعجز البارع فى هذه العلوم كلها عنه.
فأما من كان متناهيا فى معرفة وجوه الخطاب وطرق البلاغة والفنون التى يمكن فيها إظهار الفصاحة فهو متى سمع القرآن عرف إعجازه، لأنه يعرف من حال نفسه أنه لا يقدر عليه، ويعرف من حال غيره مثل ما يعرف من حال نفسه، ومتى علم البليغ المتناهى فى صنوف البلاغات عجزه عن القرآن علم عجز غيره، لأنه كهو لأنه يعلم أن حاله وحال غيره فى هذا الباب سواء.
فالبليغ المتناهى فى وجوه الفصاحة يعرف إعجاز القرآن وتكون معرفته حجة عليه إذا تحدّى إلى وعجز عن مثله وإن لم ينتظر وقوع التحدى فى غيره وما الذى يصنع ذلك الغير.