للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أمّا الأعرابيّ فكان مُتَعَمِّدَا غلبته شَهْوَتُه وزلَّتْ به قَدَمُه كما بَيَّنَّا قبلُ، فجاء يَضْرِبُ نَحره ويَنْتِفُ شَعْرَهُ، ويقول: "هَلَكْتُ احْتَرَقْتُ" ومحالٌ أنّ يكون هذا مجيء النّاسِي، بل هو مجيء المتعمِّد المجترىء.

فإن قيل: لِمَ تَرَكَهُ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - دون أَدَبٍ أو تَثْرِيبٍ؟

قلنا: لأنّه جاءَ مُسْتَفْتِيًا، والشريعةُ قد قَضَتْ بالمصلحة في ذلك كلِّه، وهي رفع العقوبة والتّثريب على المستفتي؛ لأنّه لو فعل ذلك مع واحدٍ ما جاءَ غيره بعدَهُ ولانْسَدَّ باب الاستفتاء، وبقي الخَلْق في ظُلْمَةِ الجَهَالَةِ والمعصية.

وأمّا احتجاجُهُ بكفَّارَةِ القَتْلِ، فهي وهلةٌ عظيمةٌ؛ لأنّ كفَّارَةَ القَتْلِ وردت في الخطأ، فقلنا: العمدُ أَوْلَى، وخالفنا في ذلك جماعة من العلّماء. أمّا هاهنا فَوَرَدَتِ الكفارةُ في العَمدِ، فكيف يجوز أنّ يقلب القوس رِكْوَة (١) فيحمل عليه الخَطَأ، هذا من أفسد وجوه النَّظَرِ.

المسألة الرّابعة (٢):

اختلفَ النّاسُ في هذه الكفَّارة، هل هي مُرَتَّبَةٌ كسائر الكفَّارات، أم هي على التَّخْيِير؟

قال علماؤنا: هي على التَّخْيِير، لقوله في حديث أبي هريرة: "أو" وهو نَصٌّ.

فإن قيل: قد قال له النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "هل تستطيع؟ " وناقله بالعَجْزِ مِنْ خَصْلَةٍ إلى أُخْرَى.

قلنا: يحتمل أنّ يكون ناقله قَصْدَ التَّرتيبِ، ويحتمل أنّ يكون ناقَلَهُ ليَعْلَمَ ما عندَهُ من هذه الخِصَالِ فيأخذ بالأَوْلَى (٣) منها، والأَوْلَى (٣) عند مالك منها الإطعام؛ لأنّه أنفع لأهل الحِجَازِ لجوعهم، وأكثر ثَمَنًا لِقِلَّةِ القُوتِ عندهم.

وقال ابن حبيب: هي على التَّرْتِيبِ، وهو الحقُّ؛ لأنّ "أو" (٤) في حديث أبي هريرة يَحْتَمِل التّخيير ويَحْتَمِل التَّفْصِيل، فلا يردّ الظّاهر بمحتمل.


(١) غ: "الفرس ركوبه".
(٢) انظرها في القبس: ٢/ ٤٩٩.
(٣) جـ: "الأوّل".
(٤) "أو" زيادة من القبس [٢/ ١٤٣ ط. الأزهري].

<<  <  ج: ص:  >  >>