للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النَّظر والاستدلال، فليوجد في موضعه، فهذه منزلةٌ من النّظر،

منزلةٌ أخرى من النظر:

لمّا قال اللهُ تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (١) قال المببيِّنُ لنا: لمّا أشكل علينا وَقَدْ مَرَّ بِشَاةِ ميمونة ميتة، هَلا أَخَذتُمْ إِهابَهَا فَدَبَغتَمُوهُ فَانْتفَعْتُمْ بِهِ؟ قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّها مَيْتة، قَال: إِنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا (٢)، فبيِّن - صلّى الله عليه وسلم - أنَّ متناول التّحريم من عموم القرآن الأكل خاصّة، وأَنّ باقي الميِّتة على الانتفاع بالدِّباغ الّذي جعله الله سبحانه بحكمته خلفًا للحياة، فإن الحياة ترفع العفونة عن الجلد ويبقى معها مُهَيَّئًا للانتفاع مع اتصاله باللّحم، كما يفعل الدباغ بالجلد عند إنفراده عن اللَّحْم.

منزلةٌ أخرى من النّظر:

وأمّا ابنُ شهابٍ فرأى قوله: "هَلَا أَخَذتُم إِهَابَهَا فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ" فأقدم عليه، وأمّا غيرُهُ فرأى قوله: "فَدَبَغتُمُوهُ" ولو عَلِمَهُ ابن شهاب ما تعدَّاهُ.

وأمّا ابنُ حنبل فإنّما كان يصحّ ما قالَهُ بشرطين:

أحدُهما: لو صحَّ حديثه كصِحَّةِ حديثنا، فإنّ التّعارضَ بين الخَبَرَيْن إنّما يكون إذا اسْتَوَيَا في الصِّحَةِ.

وأمّا الشرطُ الثّاني: بان يتعارضَ الخبرانِ لفظًا، ولا معارضةَ هاهنا بينهما؛ لأنّ الجلد يسمى إهَابًا قبل أنّ يُدْبَغَ، وأديمًا بعدَ الدِّباغ، فمتناوَلُ حديث عبد الله بن عُكَيم غير متناولِ حديث عبد الله بن عبّاس.

وأمّا مالك، فكان حَب الشّريعة حَبَر اللُّغة، لم يختلف عليه شيءٌ من هذه الأغراض، ولكنّه كان حَوَّاطًا على الدِّين، مُلتَفِتًا إلى مصالحِ الخَلقِ، غَوَّاصًا على معاني الألفاظِ الغَرِيبة، فتارةً نَظَرَ إلى قوله: "هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ" فأشار إلى مجرَّدِ الانتفاعِ، ولم يقل: إنّه يعودُ إلى الحالةِ الأولى، فأعطاه درجةً واحدةً من الانتفاعِ


(١) المائدة: ٣.
(٢) سبق تخريجه صفحة: ٣٠٦

<<  <  ج: ص:  >  >>