للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كان يجب قتله، فإنّه لا يلي ذلك إِلَّا السّلطان (١).


(١) يقول شيخ شيوخنا محمّد الطّاهر بن عاشور في كشف المغطَّى: ٣٢٧ - ٣٢٩: "هذا الموضع في غاية الإشكال من المذهب ومن الفقه كلّه، فقد روَى مالك هنا أنّ حَفْصَة قَتَلَت جارية لها سَحَرَتْها. وظاهِرُهُ أنّ الجاريةَ كانت مسلمة. وقال مالك عَقِبه: "أرى أنّ بقتل الساحر إذا عمل ذلك هو نفسه" اهـ. والسِّحْر يقع على وجوه كثيرة، منه تمائم ورُقَى شيطانية لا أثَرَ لها. ومنه تعالج بسقي أثياء أو دسِّها في الطّعام أو نحو ذلك، وقد يكون منها المضرّ عن قصدٍ، وعن غير قصدٍ، ومنه ما هو تَوَافِهُ يعتقد تأثيرها بتقارن بعضها ببعض أو بمقارنتها لأزمأنّها. ومنه قذارات وأشباهها تدسّ في الطّعام أو توضع على الجسد بعلَّة خدْمة الجن والشياطين أو تسخير نفس المسحور. ومنه استصراخ بالأصنام وعبادة للجنِّ جهرًا أو خفيةً. ومن أحوال السّحر ما يستتبع الإقدام على اغتيال الأنفس قَرَابِين للجنِّ والشّياطين لأنّها تَسَرّ بإهراق الدِّم البشري فتخدم الساحر وتذلّل الصَّعب لقاصده وتكشف عن كنوز مدفونة ونحو ذلك من الأكاذيب. وبهذا الاعتبار قرنه مالك في الموطَّأ مع الغيلة وقد كان هذا من شعار السَّحَرَة في الأمم القديمة مثل الكنعانيين. وكان مثلُه شائعًا في تونس في القرن الماضي ينسبونه إلى سحرة [... وافدين] على تونس ويسمونه بالمَطلب، أي استخراج الكنوز المطلوبة. ويزعمون أنّه لا يصلح له إِلَّا من كانت في عينه علامة معروفة لهم، وأكثر ما يختارون له السود ذُكرانًا وإناثًا. وليس شيءٍ من هذه بموجب هدر دم المسلم غير ما يدلُّ على أنّه قد نقض به إسلامه وارتدَّ به عن الإسلام إلى عبادة الأوثان. فما كان منه جهرًا فهو رِدّة حقّها أنّ يستتاب صاحبها ثلاثًا فإن لم يتب قتل، وما كان منه سرًا فهو زندقة تجري على حكم الزندقة في عدم الاستتابة منها عند مالك رحمه الله، أو اعتبارها ردة عند كثير من أهل العلم، ونسبه أبو بكر الرازي إلى أبي حنيفة. والذي في أحكام ابن الفَرَس؛ أنّ أبا حنيفة قال: ليس السحر بشيء إِلَّا أنّ يكون فيه كفر فيقتل للكفر. قال: وقيل هو ليس بكفر وإنّما سبيله سبيل القتل، وإدخال المرض على الغير بالإقرار والشهادة، وهو قول الشّافعيّ. وما سوى ذلك إنَّ أفضى إلى قتل النفس فهو في الظّاهر قتلُ خطأ؛ لأنّ الساحر لا يقصد القتل وإنّما يقصد التسخير والتحببب ونحو ذلك؛ وإن لم يفض إلى قتل النفس كان جناية، كإفساد العقل، وابطال الرُّجلة الّذي يسمونه العَقْد، وكخطفِ البصر والسمع ونحو ذلك، فيجري على حكم جنايته من عمد أو خطأ؛ وإن لم يفض إلى شيءٍ كالمعَاذَات والتمائم والسلوان فهو تضليل وإدخال رعب على النَّاس واستلاب لأموالهم، ففيه التعزير والغرم. فالقول بقتل الساحر على العموم ظاهره غير مستقيم. ولم يثبت في السُّنَّة قتل الساحر لأجل فعله السحْرَ. وما أراد مالك إِلَّا الساحر الّذي دل سحره على الردة؛ لأنّه قال في روايات عنه في المدوّنة "يقتل الساحر كُفرًا لا حدًّ" وأشار إلى ذلك هنا في الموطَّأ بقوله "هو مثل الّذي قال الله تعالى في كتابه: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: ١٠٢] على أنّه إنَّ كان كفرًا فحقه الاستتابة، اللَّهُمَّ إِلَّا أنّ يكون عدم التفصيل لأنّ شأن هذا الساحر إخفاء كفره.
وأمّا ما فعلتْه حفصة رضي الله عنها، فلعلَّها اطَّلعت على كُفرِ الجارية خفيةً، أو كان ذلك اجتهادًا منها في حكم السِّحْرِ، والله أعلم".

<<  <  ج: ص:  >  >>