للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال (١): الأخذ ههنا القُدرة. وقال في الحديث: "إنَّ الله مَسَحَ بِيَدِهِ آدَمَ فَاسْتَخْرَجَ مِنهُ بَنِيهِ".

فإن قيل: كيف يطابق المعنى الأخذ مع المسح؟

فالفائدة أنّه أخذٌ بِرِفْقٍ فيطابقُ المعنى، وقوله: {مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} جمعٌ؛ لأنّه أخرج من ظهر آدم بَنِيهِ، ومن ظهور بَنِيهِ حَفَدَتَهُم، فجمع وَبَانَ بالجمع أنّ الوجود الأوّل مثل الثّاني، وقوله في الحديث: "مَسَح بِيَمِينِهِ فَاستَخرَجَ ذِرِّيَتَهُ" بيَّنَ به الوجود الأوّل وصفته. وقوله: {وَأَشْهَدَهُمْ} أي: قَدَّرَهُم في الوجود الأوّل، ليكونوا شهداء على أنفسهم في الوجود الثّاني، وإقدارهم في الوجود الأوّل كان نَظَرًا واستدلالًا عليه لتّصحّ الحُجَّةُ عليهم في الوجود الثّاني، فنقول: إنَّ الله تعالى خلقهم في الوقت الّذي قدّرهم خَلقًا سالمًا من الآفات والشهوات، عارفين بالنّظر والاستدلال، ليس فيهم آفة تمنع من النّظر، بخلاف الخَلقِ الثّاني.

فإن قيل: كيف تقوم الحُجَّةُ عليهم وقد خُلِقُوا عارفين بغير شهوة بخلاف الخلق الثّاني؟

فالجواب: أنَّه لمّا خَلَقَ الآفات فيهم أخبرهم بها، وأخبرهم أنّها تؤدِّي إلى كذا وكذا، وحذِّرَهُم على ألسنة الرُّسُلِ، ومن حذَّرَكَ عن شيءٍ فلم تَحْذَرهُ فلا حُجَّةَ لك عليه.

وقوله: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} (٢) أي: مخافةَ أنّ تقودوا هذا، والشّاهد هنا هو المقرّ.

فإن قيل: لم سَلِمَ الخلْقُ الأوَّل من الآفات وكان ذلك في الثّاني؟

الجواب، قلنا: عِلمُهُ لا يَعلَمُهُ إِلَّا الله، ولا يُسأل عمّا يفعل.

فإن قيل: لا نذكر الآن الإِشهَاد الأوّل؟ فالجواب: أنّه إنّما نذكر إذا ذَكَّرَنَا الله يوم القيامة. وحينئِذٍ يرجع المُشْرِكُون فيقولون: لا نقدر على جحد المعاصي فلنجحد الكفر، فتُكذِّبهم جوارحهم. هذا تفسير أهل السُنَّةِ.

وأمّا أهل البدع فيقولون: لم نقدر قطُّ على ذلك، وإنّما هذه الأخبار على المجاز.

فالجواب: أنّ هذا الأمر نحمله على اللّفظ ولا ننقله إلى المجاز إِلَّا بدليل.


(١) القائل هو ابن العربي.
(٢) الأعراف: ١٧٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>