للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من غير تكييفٍ ولا إحاطةٍ. والإيمانُ وجودُه عن صفاتِ الله سبحانه، وهو نورٌ من نُورِهِ. والرُّوح عبدٌ رُوحَانيٌّ وأمرٌ ربانيٌّ ونفسٌ جِسمانيٌّ، حبَسَهُ الله جلّ جلالُه في الجسمِ ابتلاءً له، وأسكَنَهُ في جِوارِه، وأجرَى عليه محنته، فواقَعَ المكروهَ بواسطة الجسم، فعاقَبَهُ على ذلك بأنْ أَهْبَطَه إلى الأرض كُرْهًا لا اختيارًا منه لذلك، بل جعلَ ذلك سِجْنًا وشَقَاءً. ثمّ أَوْرَثَهُ ذلك نبيَّه - صلّى الله عليه وسلم - من بَعْدِهِ. فلئن كان عبدًا مفطورًا، ابتلاهُ وعافاهُ، وأَمَرَهُ ونهاهُ، ونَعِّمَهُ أو عذبَه. ولئن كان جسمانيًا، افتقر إلى الغذاء الجِسمانيِّ، وإلى أنّ يكون محمولًا في جِسْمٍ، وإلى أنّ يَأْلَم بالموت في خروجه عن جَسَدِهِ الّذي رُكِّبَ فيه. ولئن كان عن أَمْرِ ربِّنا جلّ جلاله، كان باقيًا، ولم يُوصَف بالموت لأجل ذلك؛ لأنّه لم يكن عن حقيقة عين التّراب، ثم يرجع إلى التراب ليأكله. ولَمَّا لم يُوصَف ما كان عنه بالموت، لم يرجع إلى الموت، وإنّما الموتُ مفارقته لجَسَدِه، وموتُ الجَسَدِ هو خلُوُّهُ منه وبقاؤه دونَهُ، والجَسَدُ هو الميَّتُ، والروحُ هو الحيُّ الباقي، فالجسمُ موصوفٌ بالموتِ حتّى يَحْيَى بالرُّوحِ، وموتُه مفارقةُ الرُّوح إياه، فهذا فارقَ الحيُّ الميِّتَ - أعني هذا العبد الرُّوحانيّ الجسم صعدَ به، فإنْ كان مؤمنًا فُتحت له أبواب السّماء حتّى يصعد إلى ربِّه جلّ جلاله، فيُؤْمَر بالسُّجود فيسجد، ثمّ تجعل حقيقته النّفسانية تعمر السُّفلي من قبره إلى حيث شاء الله من الجوّ. وحقيقتُه الرُّوحانية تعمر العُلُوَّ من السّماء الدّنيا إلى السّماء السّابعة في سرورٍ ونعيم؛ قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} الآية (١). وقد قرئ بضم الرّاء (٢)، أي: فحياة دائمة. والرَّوْحُ بفتح الرّاء: حالُ الرُّوح في الحبور والسّرور؛ لذلك لَقِيَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - موسى -عليه السّلام- قائمًا في قبره يُصَلِّي (٣)، وإبراهيم تحت الشّجرة قبل صعوده إلى السّماء الدّنيا في طريقه إلى بيت المقْدِس، ولَقِيَهُما في صعوده إلى السّماوات العُلَى. فتلك أرواحُهما، وهذه نفوسُهُما وأجسادُهما في قبورهما. وإن كان الميَّتُ شقيًّا، لم تُفْتَح له أبواب السّماء، فيُرْمَى من علوَّ إلى


(١) الواقعة: ٨٨ - ٨٩.
(٢) وهي قراءة الحسن وقتادة وغيرهما، انظر تفسير القرطبي: ١٧/ ٢٣٢. يقول الطّبريّ في تفسيره: ٢٧/ ٢١١ "وأولَى القراءتين في ذلك بالصواب قراةُ من قرأه بالفتح. لإجماع الحجّة من القراء عليه".
(٣) أخرجه مسلم (٢٣٧٥) من حديث أنس.

<<  <  ج: ص:  >  >>