وكان هذا العمل التمحيصي النّقدي الَّذي أتاه مالك في "الموطَّأ" مبنيَّا على أن بيئة الفقه في المدينة قد حوت من مختلف الآثار ورسوخ السُّنَنِ المتصلة، ما يُمكَّن القائم على فقه مجتهديها أن يجعل من مجموع المرويّ عنهم سندًا، لتصرُّفه في الأحاديث بالنقد والتمحيص، وذلك مرجع مذهبه في الاحتجاج بعمل أهل المدينة، احتجاجًا تسمو فنزلته على منزلة أخبار الآحاد؛ لأنّه ليس شيئًا مأثورًا عن واحد، وإنما هو معرفة مستنبطة من مجموع أشياء مأثورة عن كثيرين (١)، ففي "الموطَّأ" -كلما سبقت الإشارة إليه- الآثار النّبوية، وفيه المدارك الاجتهادية لأقوال الصّحابة والتّابعين، وفيه سُنَن عملية مأثورة منقولة بطريق الاستفاضة عند أهل المدينة، وفيه اجتهادات شخصية لمالك. فالآثار النبوية بعضها منقول بطريق الإسناد، وهي ست مئة حديث موصولة سلسلتها من مالك إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بذِكْر أسماء الرُّواة واحدًا عن واحدٍ ذِكْرَ تعيينٍ، وهي الَّتي اعتمدها المحدَّثون، وزكّوا أسانيدها، وخرّجوها عن مالك في كتبهم، ورُوَيت عنه في صحيحَي البخاريّ ومسلم.
ومنها أحاديث لم تتّصل أسانيدها، إمّا لعَدَم التّصريح بسماعها من النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهي الموقوفة، أو لعدم تعْيينِ الصّحابي الَّذي سمعها منه، وهي المُرْسَلَة، وهذه الأحاديث الموقوفة والمرْسَلة الَّتي في "الموطَّأ وإن لم يروها رجال الصّحيح بعد مالك عنه لأنّهم يختلفون معه في الاستدلال بالمرسل والموقوف، إلَّا أنهم رَوَوْها من طرق أخرى ليس فيها وقف ولا إرسال، فثبتت من تلك
(١) انظر كتاب عمل أهل المدينة بين مصطلح مالك وآراء الأصوليين لشيخنا أحمد نور سيف، دار الاعتصام، القاهرة: ١٣٩٧ هـ.