للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الّذي يُعْتَصمُ فيه من العَدُوُّ (١)، وكذلك يُعْصَمُ (٢) الذَّاكِرُ بالذِّكْرِ من الشيطان والنّار، لحديث مُعَاذٍ: "ليس للعَبْدِ شيءٌ أَنْجَى لَهُ مِن عَذَابِ اللهِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ" (٣). وقد ثبت عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أنَّه مشى يومًا مع أصحابه، حتّى وقفَ على جَبَلٍ يُقال له جُمْدَانُ، فقال: "سِيرُوا، سَبَقَ المُفرِدُونَ" قيل: يا رسولَ الله، ومن هم. قال: "الّذِينَ اهْتَرَوْا (٤) بِذِكْرِ الله، يضعُ الذِّكرُ عَنْهُمْ أوْزَارَهُمُ" (٥).

وقوله: "مَفْرِدُونَ" يعني الّذين أفردوا الله بالوجود الحقيقيّ، وبعموم العِلْم والقُدْرة، وبعموم الخَلْقِ، فلا خَالِقَ سِوَاهُ، وباختصاص الإرادة يفعلُ ما يشاء، وبأنّ المرجِعَ إليه. ومعناه أنّهم لم يروا إلَّا الله، وكأنَّه يريد بالموحِّدين الَّذينَ يَرَوْا اللهَ واحدًا فَرْدًا.

وقوله: "الذين أُهْتروْا بذِكرِ الله" يعني الّذين غلب عليهم الذِّكْر في الأقوال والأعمال والطّاعة، حتّى يكونوا كما روي عن الحسن البصري؟ أنَّه قال: أدركتُ قومًا لو رأيتموهم لقُلْتُم مجانين، ولو رَأَوْكُم لقالوا: فُسَّاقً (٦).

تنبيه على وَهَمٍ (٧):

قال الإمام: وغلطتِ الصُّوفيَّةُ فقالوا: إنّ المرادَ بحديث أبي ذَرٍّ: الذِّكر الدَّائم باللِّسان من غير فُتُورٍ، حتّى إذا رآه الرَّجُل قال: هذا مجنونٌ. وليس كذلك، إنّما المرادُ به الّذي ليس له عمَلٌ إِلاّ لله، إذا صلَّى وصامَ فَلَهُ، وإن جلسَ فيقول: أُجِمُّ نفسي لطاعة الله، فهذه طاعةٌ، وإن كان على أي حالٍ كان، إنْ أكلَ قال: آكلُ للتَّقَوِّي، ويذكر الله في جميع أحواله وأفعاله، فهذه عبادةٌ. وإن وطىءَ وطىءَ ليعصم نفسَهُ وأهلَه، فهذه طاعة، وإن تَطَيَّبَ يقول: أتَطَيَّبُ اقتداءً برسول الله صلّى الله عليه ومنفعةً للجليسِ وترفيعًا للملائكة، فلا يكون له عمل حتّى في النَّومِ إلَّا وَهُوَ للهِ. فهذا هو الذَّاكرُ الشَّاكِرُ لِلَّهِ، المقتدي بسُنَّةِ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -.


(١) أخرجه مطولًا الطيالسي (١١٦١، ١١٦٢)، وعبد الرزّاق (٢٠٧٠٩)، وأحمد: ٤/ ١٣٠، والترمذي (٢٨٦٣) من حديث الحارث الأشعري.
(٢) في القبس: "يعتصم".
(٣) أخرجه التّرمذيّ (٣٣٧٧)، وابن عبد البرّ في التمهيد: ٦/ ٥٧.
(٤) أي: أولعوا، انظر النهاية لابن الأثير: ٥/ ٢٤٢.
(٥) أخرجه -مع اختلاف في الألفاظ- مسلم (٢٦٧٥)، ومن طريق آخر التّرمذيّ (٣٥٩٦).
(٦) أخرجه أبو نعيم في الحلية: ٢/ ١٣٤.
(٧) انظره في القبس: ٢/ ٤٠٩ - ٤١٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>