للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإن قيل: فإنْ تعارضتِ الأحاديث فما الحُكْمُ فيها؟

قلنا: لو علمنا (١) التّواريخ لحَكَمْنَا بالآخِرِ منها على الأوَّلِ، فإذا جُهِلَتِ التّواريخُ، فاختلفَ النّاس فيه على ثلاثة أقوال:

الأوّل - منهم من قال: يؤخذُ بالأشدِّ منها؛ لأنّه الأحوط والَّذي يُحْتَاطُ له ولهم (٢).

الثّاني - منهم من قال: يؤخذ بالأَخَفّ؛ لأنّ الله تعالى قد رفعَ الحرجَ وبعثَ النّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - بالحَنِيفيَّةِ السَّمْحَة.

الثّالث - منهم من قال: تسقط ويطلب دليلٌ آخر، فإن أَمْكَنَ التَّرجيح فيجب العمل به.

وهاهنا تترجح أحاديث الجواز على أحاديث المنع؛ لأنّ هذا الّذي قال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "أُولئِكَ الْعُصَاةُ" و"لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ في السَّفَرِ" إنّما كان في سَفْرَةٍ واحدةٍ، وهذا الّذي لأنس (٣) بن مالك الأنصاري، ولحمزة بن عمرو الأَسْلَميّ ولأنس ابن مالكٌ الكَعْبِيّ وقد قيل له: "إدْنُ فَكُلْ"، قال: إنِّي صائم، قال له رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ" (٤) كان في أوقاتٍ مُخْتَلِفَةٍ.

وأيضًا: فإنّ النّبي - صلّى الله عليه وسلم - إنّما قال: "لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ في السَّفَرِ" حين رأى رَجُلًا قد ظُلِّلَ عليه من شِدَّة الحَرِّ، فسأل عنه، فقيل: إنّه صائمٌ، فقال: "لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ في السَّفَرِ"، وقد رُوِي عنه أنّه قال: "لَيْسَ مِنْ أم بِرٍّ أم صوم فِي أم سَفَرٍ" (٥) وهي لُغَةٌ للمَقُولِ له قالها النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - قَصْدَ الإفْهَامِ.

وقولُ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "أُولَئِكَ الْعُصَاةُ" قالها في قومٍ صاموا بعدَ فِطْرِ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - وَأَمْرِهِ بِالْفِطْرِ.

وقال: "تَقَوَّوْا لِعَدُوِّكُمْ" وكذلك قال علماؤنا (٦): إنّ الفطر في الجهاد أفضل لما


(١) جـ، القبس: "علم".
(٢) "ولهم" ساقطة من القبس.
(٣) غ، جـ: "الّذي قال أنس" والمثبت من القبس.
(٤) أخرجه أحمد: ٤/ ٣٤٧، وعبد بن حميد (٤٣١)، وأبو داود (٢٤٠٨)، وابن ماجه (١٦٦٧)، والتّرمذيّ (٧١٥).
(٥) أخرجها أحمد: ٥/ ٤٣٤. وللمؤلِّف جزء حديثي في هذه الرِّواية، يوجد مخطوطًا بالمكتبة الوطنية بمدريد بإسبانيا.
(٦) المقصود هاهنا هو الإمام الباجي في المنتقى: ٢/ ٤٩ وقد تصرف المؤلِّف في عبارة الباجي.

<<  <  ج: ص:  >  >>