للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كما يعضُدُه، وَيستَرفِدُ كلُّ واحدٍ منهما أخاه فَيُرفِدُهُ، فإن عُدِمَ أحدُهما، فإنْ كان المعدومُ هو السّمعَ، فلا خلافَ في جوازِ الشّهادةِ بما يُلقِيه البصرُ. فإن عُدِمَ البصرُ؛ فإنّ النَّاس قد اختلفوا في شهادةِ ما يُلقِيهِ السّمعُ؛ فجمهورُ العلّماءِ على أنّ شهادةَ الأعمى جائزةٌ. وقال أبو حنيفةَ (١) والشّافعيّ (٢): لا تجوزُ شهادةُ الأعمى لاشتباه الأصوات ووجود المحاكاة الّتي يَعْسُرُ الفصلُ فيها إِلَّا على من عَاينَ المُحَاكِيَ والمُحَاكَى، وهي مسألةٌ عسيرٌ: جدًا تهاونَ العلّماءُ بها، وهي معضلةٌ، وقد بيّنّاها في "مسائل الخلاف" واعتَضَدَ العلّماءُ القُدَماء والمُحدَثُون بقول النّبيّ: "فَكُلُوا وَاشرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكتُومٍ" (٣) فربطَ النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - الحِلَّ والحِرمَة بسَمَاعِ الصّوتِ المَعْهُودِ، وفرَّقَ علماءُ الحنفيّةِ بينهما بفرقٍ عظيمٍ، وهو أنّ الأذانَ ليس بمَوْضِع للتَّلَبُّسِ والحِيلَة، والشّهادةُ مَعدِنُ ذلك.

وقال علماؤنا: الْمُحَاكَاةُ الّتي يَعسُرُ الفرقُ فيها، إنّما تكونُ في الكلمة والكلمتين، وأمّا سَردُ القولِ، فلا يكادُ يَخفَى الفرقُ بين التّحكيةِ والحقيقةِ، ولذلك يقالُ للأعمى: لا تَقنَع في تحَمُّلِ الشّهادة بِقَول: نعم، حتّى تُوصَفَ المسألةُ بأن يقول: بايَعتُ، ونَكَحتُ، فحينئذٍ يرتفِعُ اللَّبسُ ويظهَرُ الفَرْقُ.


(١) انظر مختصر الطحاوي: ٣٣٢، ومختصر اختلاف العلماء: ٣/ ٣٣٦، والمبسوط: ١٦/ ١٢٩.
(٢) انظر الأم: ١٣/ ٥١٨ (ط. قتيبة).
(٣) رواه مالك في الموطَّأ (١٩٤) رواية يحيى.

<<  <  ج: ص:  >  >>