لَمَّا أوجَبَ الله الوصيّةَ أو ندَبَ إليها، سقطَ لزومُها وجاز في كلِّ وقتٍ تغييرُها، فلو كانت لا تُغَيَّرُ لما كانت لأحدٍ قُدرةٌ على أنّ يُبادِر إليها، مخافةَ أنّ يبقَى حيًّا ويَلزَمُهُ عَقدُها، حتّى إنّه جوَّزَ فيها تبديلَ ما لا يُبَدَّلُ وهو العِتقُ، وكلُّ شيءٍ يُفعَلُ للمَرءِ بعدَ موته فإنّه يجوزُ أنّ يَرجِعَ فسِه. وكلُّ شيءٍ يُنفِذُهُ في صحّته، يَلزَمُه. وكلُّ ما يفعَلُه في مَرَضِه، له تغييرُهُ -كما قلنا - إِلَّا العِتقَ المُبتَلَ والمدبَّرَ. وسترَى ذلك مبيَّنًا إنَّ شاء الله. في "كتاب العِتق".
الحكم الثّالث:
إنَّ الله تعالى لمّا مَلَّكَ الأموالَ للخَلقِ، وعَلِمَ أنّهم على قسمين: منهم من يحفُظُ المالَ، ومنهم من يُهمِلُه، فشَرَعَ الحجرَ على من أهمله من صغيرِ أو مُصابٍ، أو ضَعِيف أو سفيهٍ، وقبَضَ أيديَهُم عن الأموالِ، وأَلغَى ما يَصدُرُ عنهم فيها من الأقوال، إبقاءً عليهم ورحمةً لهم، إِلَّا أنّ يُوصُوا، فمن أوصَى منهم نَفَذَت وصيَّتُه؛ لأنّها ظاهرةٌ في وقتٍ لا يُتَوَقَّعُ عليه فسادٌ في مالِه ولا حاجةٌ في حاله، وهذا إذا كان مُمَيِّزًا يعقِلُ ما يُوصِي به، ويتكلّمُ عن فهمه من غير أنّ يُقَوَّل. وعلى هذا جاء قضاءُ عمر، وعليه حمل المجنون في حال الإِفاقَةِ.
الحكم الرّابع:
محلُّ الوصيَّةِ الثُّلُثُ للصّحيح والمريض، لحديث سعدِ بنِ أبي وقّاصٍ:"الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ"(١) وقد رُوِيَ عن النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - أَثَرٌ قال فيه: "إِنَّ اللهَ قَد أَعطَاكُم ثلُثَ أَموَالِكُم