للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقال قوم: إنّما ذلك لأنّ الشُّرْبَ في نَفسٍ واحدٍ غير محمودٍ عند أهل الطِّبِّ، وربّما آذى الكبد، فكره ذلك كما كره الاغتسال بالماء المشمّس (١) لأنّهم قالوا يُوَرِّث البَرَصَ، وما أظنُّ هذا صحيحًا من قولهم إنّه يُورِّثُ البَرَصَ.

وقال آخرون: إنّما نُهِيَ عن التّنَفُّسِ في الإناء ليزيل الشّارب القَدَحَ عن فِيهِ؛ لأنّه إذا أزاله عن فيه صار مستأنِفًا للشُّرْبِ، ومن سنّة الشّراب أنّ يَبْتَدِيهِ المرءُ بذِكرِ الله تعالى، فمتى أزال القَدَحَ عن فيه حمد الله، ثمّ استأنف الشّرب فسمّى الله، فحصلت له بالذّكْر حسنات، فإنّما جاء هذا رغبةً في الإكثار من ذِكْرِ الله على الطّعام والشّراب.

قال أبو عمر (٢): وهذا تأويلٌ ضعيفٌ؛ لأنّه لم يبلغنا أنّ النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - كان يُسَمِّي عند كلّ لُقْمَةٍ إلّا في أوّله وفي آخره. ورَوَى ابن عبّاس عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "لا تَشْرَبُوا واحدة كشُرْبِ البَعِيرِ، ولكن اشْرَبُوا مَثْنَى وثلاثَ، وسَمُّوا إذا شرِبْتُمْ، واحمدُوا إذا رَفعْتُمْ" (٣).

وقال آخرون إنّما نهى عن التّنفُّس في الإناء لأدب المجالسةِ؛ لأنّ المتنفّس في الإناء قلَّ ما يخلو من أنّ يكون مع نفسه رِيقٌ ولُعَابٌ، ومن سوء الأدب أنّ يشرب ثمّ يناول جليسه لُعابه، فتكرهُ النفسُ ذلك، ولأنّ اللّعاب رقيق سريع الخلطة بالماء.

الثامنة:

قوله (٤): "وَيُكْرَهُ النَّفْخُ في الطّعامِ كما يُكْرَهُ النَّفْخُ في الشَّرَابِ" (٥) ومعنى ذلك عندي أنّه يتوقّع أنّ يسرع إليه من ريق النّافخ من غير اختيار ما يتقذَّر به ذلك الطّعام كما يتقذّر الشّراب، والله أعلم.


(١) أي المسخّن بالشّمس.
(٢) في التمهيد: ١/ ٣٩٨.
(٣) أخرجه التّرمذيّ (١٨٨٥)، وقال: "هذا حديث غريب"، والطبراني في الكبير (١١٣٧٨).
(٤) أي قول ابن شهاب فيما بلغه عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - كما نصّ على ذلك ابن عبد البرّ في التمهيد: ١/ ٣٩٨ - صلى الله عليه وسلم -، والاستذكار: ٢٦/ ٢٧٤.
(٥) لفظ الحديث كما في المصدرين السابقين: "بلغني أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - نَهَى عن النَّفْخِ في الطّعامِ والشَّراب".

<<  <  ج: ص:  >  >>