للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واعلم أنّه ما بعثَ الله نبيًّا قطّ إِلَّا بالزُّهدِ في الدُّنْيا والنَّهيِ عن الرّغْبةِ فيها (١)، ودَعَوا الخلْقَ إلى ما هُمْ عليه، وهو الزّهدُ في الدّنيا، والزّهد في الدّنيا هو ضدّ الرّغبةِ فيها، والرّغبةُ فيها هو الاستعظامُ لها، والحِرْصُ عليها والمَيلُ إليها، فإذا كان الزُّهد هو ضدّ الرّغبة، فهو الاستصغارُ للدّنيا والاحتقارُ لزِينَتِها، الّذي يدعو إلى رَفْضِ فضولها، وأخْذِ القوام منها، عَوْنًا على طاعةِ الله، فلا يترُك الزّاهدُ منها شيئًا إلّا لله، ولا يأخذ منها شيئًا إلّا لله، عَوْنًا على طاعة الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولا يتركها كلّها إذا صغرت عنده وهانت عليه، فيكونُ عاصيًا لله، إذْ قد تَرَكَ منها واجبًا أُمِرَ بأخذه، أو مقصِّرًا في حظِّهِ وقد نُدِبَ إلى أَخْذِهِ، لكنّه لما صَغُرَتْ عنده وهانت عليه، امتنع منها كما أَمَرَ الله في كتابه، وما أَخَذَهُ منها أَخَذَهُ على وجه العون على الطّاعة، وما ترك منها، ممّا يجوزُ له أخذه، تَرَكَهُ زُهدًا فيه، ليتقرَّبَ بذلك إلى خَالِقِه. فهذا هو الزُّهدُ عند جماعةِ العلماء، وإلى هذا أشار المحاسبيّ وكان من أهل الطّريقة (٢).

وقد اختلف النَّاس وأرباب القلوب وطوائف العُبّاد في الزُّهد والوَرَع على أقوالٍ جمَّةٍ.

الطائفة الأولى، قالت: إنَّ الزّاهد على الحقيقة من زهد في المباح، وأمّا الزُّهد في الحرام فَفَرْضٌ عليه الزّهد فيه وتركه، فهذا ينطلق عليه اسم الزّهد.

وأمّا الوَرِعُ فهو الّذي يجتنبُ المحرمّاتِ، وَيتَوَقَّى الشُّبهات، ويترك أيضًا المُباح من الشّهوات، فكلُّ زاهدٍ ورِعٌ وليس كلُّ وَرعٍ زاهدًا، فالورعُ أعمّ من الزُّهد.

وقال شقيق (٣) وسفيان الثّوري: إنَّ الزّهدَ في الدّنْيا قِصْرُ الأمل (٤)، وتوقّع نزول


(١) العبارة السابقة مقتبسة من الاستذكار: ٢٦/ ٣٢١.
(٢) عبارة: "وكان من أهل الطريقة" من زيادات المؤلّف على نصّ ابن رشد.
(٣) هو شقيق بن إبراهيم البلخي.
(٤) أخرج هذه الفقرة من قول سفيان وكيع في الزهد (٦)، وابن أبي شيبة (٣٥٦٨٣)، وابن أبي الدنيا في قصر الامل (٣٢)، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل: ١/ ١٠١، وابن الأعرابي في الزهد وصفات الزاهدين (٨)، وأبو نعيم في الحلية: ٦/ ٣٨٦، والقشيري في الرسالة: ١/ ٢٤٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>