للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال بعضُ الصّوفية: إنّ معنى قوله: " إنّ عَيْنَيَّ تنامانِ ولا ينامُ قلبِي" معناه: أنّ عينَيْه تنامُ عن الدُّنيا, ولا ينامُ قَلْبُه عن المَلَكُوتِ الأعْلَى.

قال الإمامُ الحافظُ أبو عمر (١) - رضي الله عنه -: "أمّا طَبْعُه وعادَتُه المعروفةُ منه ومِنَ الأنبياءِ قَبْلَهُ، فيما حَكَى عن نفسِهِ: "إنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ، ولا يَنَامُ قَلْبِي" (٢) فأطلَقَ ذلكَ على نفسِهِ إطلاقًا غيرَ مُقَيَّدٍ بوَقْتٍ، وفي حديث آخرَ: "إنا مَعْشَرَ الأنبياءِ تَنَامُ أَعْيُنُنَا ولا تَنَامُ قُلُوبُنَا"، فأخبرَ أنَّ كلَّ الأنبياءِ كذلكَ".

قال الإمام الحافظُ أبو بكر بن العربي -رضي الله عنه (٣) -: اعلم أنّ الله تعالى خَلَقَ العبدَ حيًّا دَرَّاكًا مفكِّرًا قادرًا، في أحسنِ تقويمٍ، ثمّ ردَّهُ أسفلَ سافِلينَ، ثمَّ سلَّط عليه السَّهوَ والغَفْلَة، ليتبيَّنَ قُصورَ هذه الفضائِلِ الّتي فيه، حتى لا يقول: أنا كذا وأنا كذا. وسلَّطَ عليه النّومَ، وهيَ آفة تُدْرِكُ الحواسَّ، وركودٌ يقومُ بالجوارحِ، لا يَلْحَقُ القلبَ ولا الرُّوحَ ولا النَّفْسَ منها شيءٌ؛ ولذلك قال علماؤنا - رضي الله عنهم-: إنّ الرُّؤيا إدراكٌ حقيقةً وعِلْمٌ صحيحٌ، والمَرْءُ في يَقَظِتِه ومنامِهِ لا ينفَكُّ عن حالَتِهِ الّتي هو عليها, إنّ كان في اليقَظَةِ في تخليطٍ وتلاعُبٍ مع البطَّالينَ، انتقَلَ إلى مِثْل ذلك في المَنَام. وإن كان في يقَظتِهِ في عِلْم وتحقيقٍ وعبادةٍ؛، انتقلَ إلى مِثْلِ ذلكَ في المنامِ، فَلَقَفَهُ مَلَكُ الرُّؤيا إلى نَفْسِهِ، وألْقَى عليه مِثْلَ ما كان فيه من التّحقِيقِ. ولكنَّ الرؤيا أكثرُها حَقًّا؛ لأنّها أقربُ إلى الله، ولأنّها تأتي بواسطةِ الْمَلَكِ وليس عندَهُ إلَّا الحقُّ، فلذلك كانت جزءًا من النُّبوَّة؛ لأنَّ الْمَلَك يُلقيها إلى كلِّ عبدٍ، ولذلك كانت بُشْرَى؛ لأنّها خَبَرٌ من الْمَلَكِ عن الله تعالى. ونظيرُها في اليَقَظَةِ الفَأْلُ، فقد كان -عليه السّلام- يُصْغِي إليه ويُعَوَّلُ عليه، لكنّ الفَأْلَ


(١) في التمهيد: ٦/ ٣٩٢.
(٢) أخرجه مالكٌ في الموطّأ، (٣١٥) رواية يحيى.
(٣) انظر هذه الفقرة في القبس: ١/ ١٠٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>