للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الإمام الحافظ: وفي هذا دليلٌ على أنّهم مُرَكَّبونَ من ريشٍ وجِسمً، لا كما تقولُ الفلاسفةُ: إنّهم بسائِطُ، وتقول: إنّهم يَكبُرُونَ حتّى يَملأَ أحدُهم الأُفُقَ، ويَصغُرُونَ حتّى يصيرَ أحدُهم كالرَّضِيعِ، ولذلك قال - صلّى الله عليه وسلم - لصاحبه: "كُل مِنَ القِدرِ الّذي فيه الخَضِرَات، فإنِّي أُنَاجِي مَنْ لاَ تُنَاجِي" (١) إشارة إلى أنّ المَلَكَ يأتيه من غير وَعدٍ، فربّما وَجَدَهُ على تلك الحالِ.

وفي بعضِ الآثارِ المُرْسَلَةِ: "إنَّ الرَّجُلَ يَكذِبُ الكَذبَةَ فيتباعَدُ عنه المَلَكُ من نَتنِ رائِحَتِه" (٢) وذلك كثيرٌ في الشّريعةِ.

العلَّةُ الثانيةُ - قولُه: "فَلاَ يَقرَب مَسَاجِدَنَا" و"مَسَجِدَنَا" فذَكَرَ الصِّفةَ في الحُكمِ وهي المسجديّةُ، وذِكرُ الصِّفةِ في الحُكمِ تعليلٌ؛ لأنّ الأسماءَ الّتي عُلِّقَت عليها الأحكامُ على قسمين: أحدُهما: مشتقّةٌ، والأخرى جامدةٌ. فإذا علّقَ الحُكمَ على اسم مشتقٌّ، أفادَ الحُكمَ والعلّةَ، كقوله: أَكرِمِ العالِمَ، معناه: لِعِلمِهِ. وإذا كان الاسمُ جامدًا لم يُفِدْ إلَّا ما تفيدُهُ الإشارةُ، وهو بيان المَحَلِّ، كقولك: أَكرِم زيدًا، وعلى القسمِ الأوّلِ جاءَ قولُه (٣).

وتنبني فيه مسألةٌ من الأصولِ، وهو تعلَّق الحُكم الشّرعي بعِلَلٍ كثيرةٍ، كالامتناعِ من. وطْءِ الحائضِ المُحْرِمَةِ الصّائمةِ، بخلافِ العِلَلِ العقليّةِ؛ لأنّ الحُكمَ لا يتعلَّقُ منها إلَّا بواحدةٍ.


(١) سبق تخريجه من حديث جابر.
(٢) أخرجه بنحوه الترمذي (١٩٧٢) عن ابن عمر مرفوعًا، بلفظ: "إذا كَذَبَ العبدُ تباعَدَ عنه المَلَكُ مِيلًا من نتْنِ ما جاء به" قال الترمذي: "هذا حديث حسنٌ غريب" كما أخرجه الطبراني في الأوسط (٧٣٩٨)، والصغير (٨٥٣)، ومن طريقه المزي في تهذيب الكمال: ١٨/ ٤٦، وأخرجه أيضًا أبو نعيم في الحلية: ٨/ ١٩٧، وذكره ابن حبان في المجروحين: ٢/ ١٣٧، وابن الجوزي في العلل المتناهية: ٢/ ٧٧٤ وقال: " هذا حديث لا يصحّ".
(٣) تتمّة الكلام كما في القبس: " ... سَهَا فَسَجَد، وزَنَا فَرُجِمَ، وقَتَلَ فقُتِلَ".

<<  <  ج: ص:  >  >>