للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأصول (١):

قال في الحديث الّذي صدر به مالك (٢) "باب التّرغيب في صلاة رمضان"، إنّ النّبيّ عليه السّلام صلَّى والنّاس اللّيالي، ثم تَرَكَ النّبيُّ الصّلاةَ واعْتَذَرَ لهم بأنه خَشِيَ إَنْ يفرضَ عليهم. وذلك أنّه سأل لأُمَّتِه ليلةَ الإسراءِ التَّخفيفَ عنهم من خمسين إلى خَمْسٍ (٣)، فلو اجتمعوا على هذه الصّلاة لجاز (٤) أنّ يقال: سألتَ التَّخفيفَ عنهم فخَفَّفْنَا، فتراهم قد التزموا ذلك من قِبَلِ أنفُسِهم زيادةً على ذلك، فيلزمهم. وكان صلّى الله عليه وسلّم بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا. وهذا يدلُّ على فَضلِ الجماعة وعِظَمِ (٥) موقعها في الدِّين؛ لأنّ كلَّ أحدِ يصلِّي وحدَهُ في بيته ليلًا، ولم يخف النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - توجّه الفريضة بذلك، وإنّما خافَها عند إلاجتماع، فتركَها رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - مدَّته، وأبو بكرٍ في خِلاَفَتِه، اشْتِغَالًا بتأسيس القواعد ورَبطِ المعاقد، وبنيان الدَّعائم، وسَدِّ الثُّغور بأهل النَّجْدَة من المؤمنين. ثمّ جاء عمر والأمورُ منتظمة، والقلوبُ لعبادة الله فارغة، والنّفوسُ إلى الطَّاعة مُحِبَّة. فلمّا رآهم في المسجد أَوْزَاعًا، رأى أنَّ نَظْمَ جميعهم على إمامٍ واحدٍ فَضْلًا ودينًا، فجمعهم على أُبَيِّ بن كعب (٦) اقتداءً بالنَّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - في لياليه الثّلاث الّتي صلَّى بالنّاس فيها, ولعِلمِهِ أنّ العلَّةَ الّتي تركَ لها رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - الصّلاةَ من خَوفِ الفَرِيضَةِ قد زالت، فصار قيامُ رمضان سُنَّةَ، للاقتداءِ بالنّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - بَعْدَ زوال العِلَّةِ الّتي تركها لأجلها، وصار بدعة؛ لأنّه لم يكن مفعولًا فيما سَلَفَ من الأزمنة، ونِعْمَت البِدْعَة، سنّة أُحْيِيَت وطاعةً فُعِلَت.

والبدعة بدعتان: بدعة هُدى واقتداء، وبدعة ضلالةٍ واعتداءٍ (٧)،

قال علماؤنا: هذا يدلُّ على أنّ الحُكمَ إذا ثبت لعلَّةٍ، وُجِدَ بِوُجُودِهَا وعُدِمَ بِعَدَمها. قال لنا (٨) فخرُ الإسلام الشّاشىّ بمدينة السّلام في الدَّرس: إذا ثبتَ الحُكمُ


(١) انظر كلامه في الأصول في القبس: ١/ ٢٨١ - ٢٨٤.
(٢) في الموطَّأ (٢٩٩) رواية يحيى.
(٣) أخرجه البخاريّ (٣٤٩)، ومسلم (١٦٣).
(٤) في النّسَخ: "لخاف" والمثبت من القبس.
(٥) جـ: "وعَظيم".
(٦) أخرجه مالكٌ في الموطَّأ (٣٠١) رواية يحيى.
(٧) وفي هذا المعنى يقول القنازعي في تفسير الموطَّأ: الورقة ٢١ "والبدعة بدعتان: بدعة هُدى، وبدعة ضلالة. وبدعة الضلالة كلّ ما ابتدع على غير سُنَّةٍ". وانظر مشكلات موطَّأ مالكٌ: ٨٣.
(٨) "لنا" زيادة من القبس.

<<  <  ج: ص:  >  >>