{وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: ١٥] ، وَإِمَّا بِالْإِقْرَارِ فَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ بِإِقْرَارِهِمَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَرَوَى هُوَ وَالْبُخَارِيُّ خَبَرَ «وَاغْدُ يَا أُنَيْسٌ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» عَلَّقَ الرَّجْمَ عَلَى مُجَرَّدِ الِاعْتِرَافِ، وَإِنَّمَا كَرَّرَهُ عَلَى مَاعِزٍ فِي خَبَرِهِ؛ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي عَقْلِهِ وَلِهَذَا قَالَ أَبِكَ جُنُونٌ وَوَصَفَ الْإِقْرَارَ بِقَوْلِهِ (مُفَسَّرٌ كَالشَّهَادَةِ) وَاحْتِيَاطًا لِلْحَدِّ وَسَعْيًا فِي سِتْرِ الْفَاحِشَةِ مَا أَمْكَنَ وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِقِصَّةِ مَاعِزٍ.
(وَيُجْزِئُ) أَيْ يَكْفِي فِي ثُبُوتِ الْحَدِّ (إشَارَةُ الْأَخْرَسِ بِالْإِقْرَارِ) بِالزِّنَا.
(وَإِنْ رُئِيَا) أَيْ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّانِ (تَحْتَ لِحَافٍ عُزِّرَا) ، وَلَمْ يُحَدَّا.
(وَيُقَامُ الْحَدُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ إنْ لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً) مِنْ نَحْوِ رِدَّةِ الْمَحْدُودِ وَالْتِحَاقِهِ بِأَهْلِ الْحَرْبِ.
(وَيَحْرُمُ الْعَفْوُ عَنْ حَدٍّ لِلَّهِ) تَعَالَى (وَالشَّفَاعَةِ فِيهِ) «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُسَامَةَ لَمَّا كَلَّمَهُ فِي شَأْنِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ فَقَالَ إنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ إنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَاَيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
(وَيُسْتَحَبُّ لِلزَّانِي) وَلِكُلِّ مَنْ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً (السَّتْرُ) عَلَى نَفْسِهِ لِخَبَرِ «مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّ مَنْ أَبْدَى لَنَا صَفْحَتَهُ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَتَلَ أَوْ قَذَفَ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقِرَّ بِهِ لِيُسْتَوْفَى مِنْهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الشَّهَادَاتِ لِمَا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ التَّضْيِيقِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتُرَ عَلَى نَفْسِهِ الْمَعْصِيَةَ أَنْ لَا يُظْهِرَهَا لِيُحَدَّ أَوْ يُعَزَّرَ فَيَكُونُ إظْهَارُهَا خِلَافَ الْمُسْتَحَبِّ أَمَّا التَّحَدُّثُ بِهَا تَفَكُّهًا أَوْ مُجَاهَرَةً فَحَرَامٌ قَطْعًا لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ نَبَّهَ عَلَيْهِ الْأَذْرَعِيُّ.
(وَكَذَا الشَّاهِدُ) يُسْتَحَبُّ لَهُ سَتْرُهَا بِأَنْ يَتْرُكَ الشَّهَادَةَ بِهَا (إنْ رَآهُ مَصْلَحَةً) ، وَإِنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي الشَّهَادَةِ بِهَا شَهِدَ كَذَا فِي الرَّوْضَةِ فَكَلَامُهَا فِيمَا إذَا لَمْ يَرَ مَصْلَحَةً مُتَدَافِعٌ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَشْهَدُ وَالْأَقْرَبُ خِلَافُهُ، وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ يُحْمَلُ إطْلَاقُهُمْ فِي بَابِ الشَّهَادَاتِ وَغَيْرِهِ اسْتِحْبَابَ تَرْكِ الشَّهَادَةِ ثُمَّ مَحَلُّ اسْتِحْبَابِ تَرْكِهَا إذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِتَرْكِهَا إيجَابُ حَدٍّ عَلَى الْغَيْرِ فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ ذَلِكَ كَأَنْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ بِالزِّنَا فَيَأْثَمُ الرَّابِعُ بِالتَّوَقُّفِ وَيَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ.
(وَلَوْ أَقَرَّ بِزِنًا أَوْ شُرْبٍ) لِمُنْكَرٍ (اُسْتُحِبَّ لَهُ الرُّجُوعُ) كَالسَّتْرِ ابْتِدَاءً، وَهُوَ مُقْتَضَى خَبَرِ مَاعِزٍ السَّابِقِ، وَهَذَا مَا رَجَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ، وَلَا يُخَالِفُهُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ مَا يَأْتِي فِي الشَّهَادَاتِ أَنَّ مَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ حَدٌّ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ الْإِمَامَ لِيُقِيمَهُ عَلَيْهِ لِفَوَاتِ السَّتْرِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّهُورِ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى زِنَاهُ مَنْ لَا يَثْبُتُ الزِّنَا بِشَهَادَتِهِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ أَمَّا الْمُقِرُّ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ الرُّجُوعُ لِمَا مَرَّ (فَإِنْ رَجَعَ) عَنْ الْإِقْرَارِ، وَلَوْ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْحَدِّ (سَقَطَ) عَنْهُ (الْحَدُّ) لِتَعْرِيضِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَاعِزٍ بِالرُّجُوعِ بِقَوْلِهِ «لَعَلَّك قَبَّلْتَ لَعَلَّك لَمَسْتَ أَبِكَ جُنُونٌ» ؛ وَلِأَنَّهُمْ «لَمَّا رَجَمُوهُ قَالَ رُدُّونِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَسْمَعُوا وَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ» .
(فَلَوْ قُتِلَ بَعْدَ الرُّجُوعِ) عَنْ إقْرَارِهِ (فَلَا قِصَاصَ) عَلَى قَاتِلِهِ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ بِالرُّجُوعِ، وَقَوْلُ الدَّارِمِيِّ وَمَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْقَاتِلُ بِرُجُوعِهِ فَإِنْ عَلِمَ بِرُجُوعِهِ قُتِلَ بِلَا خِلَافٍ فِيهِ نَظَرٌ يُعْرَفُ مِنْ التَّعْلِيلِ (وَيُضْمَنُ بِالدِّيَةِ) ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بِهَا بِجَامِعِ الشُّبْهَةَ، وَالتَّصْرِيحُ بِهَذَا مِنْ زِيَادَتِهِ.
(وَإِنْ رَجَعَ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِّ، وَتَمَّمَهُ الْإِمَامُ مُتَعَدِّيًا) بِأَنْ كَانَ مُعْتَقِدًا سُقُوطَهُ بِالرُّجُوعِ (فَمَاتَ) بِذَلِكَ (فَالْوَاجِبُ نِصْفُ دِيَةٍ) ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ مَضْمُونٍ وَغَيْرِهِ (أَوْ
ــ
[حاشية الرملي الكبير]
لِمَالِكٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ إكْرَاهٍ وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ. الرَّابِعَةُ قَذَفَهَا وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا لَا يَثْبُتُ الزِّنَا عِنْدَنَا، قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي بَابِ اللِّعَانِ مِنْ الِاصْطِلَامِ
(قَوْلُهُ: فَيَكُونُ إظْهَارُهَا خِلَافَ الْمُسْتَحَبِّ) وَيُكْرَهُ إظْهَارُهَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي (قَوْلُهُ: أَمَّا التَّحَدُّثُ بِهَا تَفَكُّهًا أَوْ مُجَاهَرَةً فَحَرَامٌ قَطْعًا) أَشَارَ إلَى تَصْحِيحِهِ.
(قَوْلُهُ: وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَشْهَدُ) أَشَارَ إلَى تَصْحِيحِهِ (قَوْلُهُ: ثُمَّ مَحَلُّ اسْتِحْبَابِ تَرْكِهَا إذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِتَرْكِهَا إيجَابٌ) أَشَارَ إلَى تَصْحِيحِهِ، وَكَتَبَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ وَرُبَّمَا كَانَ فِي الْأَدَاءِ مَأْثُومًا مِثْلَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْمُسْلِمِ بِأَنَّهُ قَتَلَ كَافِرًا، وَالْحَاكِمُ حَنَفِيٌّ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْأَدَاءُ لِمَا فِيهِ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، وَمِنْ هُنَا يُؤْخَذُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يَشْهَدَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ أَوْ بِالتَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ أَوْ بِمَا يُوجِبُ التَّعْزِيرَ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّوْبَةَ وَيَحُدُّهُ بِالتَّعْرِيضِ وَيُعَزِّرُهُ أَبْلَغَ مِمَّا يُوجِبُ الشَّافِعِيُّ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ الْوَجْهُ الَّذِي فِي طَلَبِ الشَّافِعِيِّ نَحْوَ شُفْعَةِ الْجِوَارِ مِنْ الْحَنَفِيِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ ر.
(قَوْلُهُ: فَيَأْثَمُ الرَّابِعُ بِالتَّوَقُّفِ وَيَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ) وَمِثْلُهُ لَوْ قَذَفَ وَثَمَّ بَيِّنَةٌ بِالْفِعْلِ أَوْ الْإِقْرَارِ فَعَلَيْهِمْ الْأَدَاءُ لَا مَحَالَةَ، وَكَذَا لَوْ شَتَمَهُ بِمَا يُوجِبُ التَّعْزِيرَ وَطَلَبَهُ الْمَشْتُومُ، وَعَلِمَ عَدْلَانِ بِوُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُ يَلْزَمُهُمَا الْأَدَاءُ بِهِ لِطُهْرِ الشَّاتِمِ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُمَا الْإِعْلَامُ إنْ كَانَ جَاهِلًا بِشَهَادَتِهِمَا، وَكَتَبَ أَيْضًا، قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَقِسْ عَلَى هَذَا مَا يُشْبِهُهُ، وَهَلْ يَلْحَقُ بِهِ مَا لَوْ كَانَ يَلِي شَيْئًا شَرَطَ مُتَوَلِّيهِ الْعَدَالَةَ كَالْوُقُوفِ وَالْأَيْتَامِ وَبَيْتِ الْمَالِ وَالْأَحْكَامِ فِيهِ نَظَرٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ إنْ عَلِمُوا إصْرَارَهُ، وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْأَدَاءُ لَا سِيَّمَا إذَا اطَّلَعُوا عَلَى إنْفَاقِهِ الْمَالَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْحَاكِمُ لِانْعِزَالِهِ بِفِسْقِهِ، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّ غَيْرَ الْحَاكِمِ قَدْ تَابَ، وَأَنَابَ فَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ
(قَوْلُهُ: فَإِنْ رَجَعَ) كَقَوْلِهِ كَذَبْت أَوْ رَجَعْت عَمَّا أَقْرَرْت بِهِ أَوْ مَا زَنَيْت أَوْ فَأَخَذْت أَوْ لَمَسْت فَاعْتَقَدْته زِنًا أَوْ لَا حَدَّ عَلَيَّ (قَوْلُهُ: سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ) بَلْ سَقَطَ حُكْمُ الْإِقْرَارِ جُمْلَةً حَتَّى لَوْ قَذَفَهُ قَاذِفٌ حُدَّ وَيَبْقَى بِرُجُوعِهِ عَلَى حَصَانَتِهِ قَبْلَ الْإِقْرَارِ، قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ، قَالَ النَّاشِرِيُّ: مَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ لَا شَكَّ فِيهِ، وَهَذَا فِي الْقَذْفِ الْحَادِثِ بَعْدَ الرُّجُوعِ، وَأَمَّا الْقَذْفُ بِذَلِكَ الزِّنَا الَّذِي أَقَرَّ بِهِ فَلَا مِرْيَةَ بِعَدَمِ الْحَدِّ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْمَهْرُ الثَّابِتُ بِإِقْرَارِهِ بِالزِّنَا إذَا ادَّعَتْ حُرَّةٌ أَنَّهُ زَنَى بِهَا مُكْرَهَةً ثُمَّ رَجَعَ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْحَدُّ دُونَ الْمَهْرِ.
(قَوْلُهُ: فَلَا قِصَاصَ عَلَى قَاتِلِهِ) أَيْ، وَإِنْ عَلِمَ بِرُجُوعِهِ (قَوْلُهُ: فِيهِ نَظَرٌ يُعْرَفُ مِنْ التَّعْلِيلِ) فَالْإِطْلَاقُ هُوَ الرَّاجِحُ.