وَمِثْلُهُ مَا لَوْ تَجَدَّدَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا يَأْثَمُ بِاسْتِمْرَارِ السَّفَرِ عِنْدَ سُكُوتِ الْأَصْلِ وَالدَّائِنِ وَيُفَارِقُ مَا مَرَّ فِي ابْتِدَاءِ السَّفَرِ بِأَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي الدَّوَامِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الِابْتِدَاءِ هَذَا كُلُّهُ (قَبْلَ الشُّرُوعِ) فِي الْقِتَالِ (إنْ أَمِنَ فِي طَرِيقِهِ) عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَنَحْوِهِمَا (وَلَمْ تَنْكَسِرْ قُلُوبُ الْمُسْلِمِينَ) بِرُجُوعِهِ وَلَمْ يَخْرُجْ مَعَ الْإِمَامِ بِجُعَلٍ وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُهُ الرُّجُوعُ بَلْ لَا يَجُوزُ (وَلَوْ أَمْكَنَهُ الْإِقَامَةُ عِنْدَ الْخَوْفِ بِمَوْضِعٍ) فِي طَرِيقِهِ (لَزِمَهُ) الْإِقَامَةُ بِهِ حَتَّى يَرْجِعَ الْجَيْشُ لِحُصُولِ غَرَضِ الرَّاجِعِ مِنْ عَدَمِ حُضُورِ الْقِتَالِ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْإِقَامَةُ وَلَا الرُّجُوعُ فَلَهُ الْمُضِيُّ مَعَ الْجَيْشِ لَكِنْ يَتَوَقَّى مَظَانَّ الْقَتْلِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ (وَلَوْ شُرِعَ فِي الْقِتَالِ) بِأَنْ الْتَقَى الصَّفَّانِ (حَرُمَ) عَلَيْهِ (الرُّجُوعُ وَلَوْ خَرَجَ بِلَا إذْنٍ) لِوُجُوبِ الْمُصَابَرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: ٤٥] وَلِأَنَّ الِانْصِرَافَ يُشَوِّشُ أَمَرَ الْقِتَالِ وَقِيلَ لَا يَحْرُمُ ذَلِكَ إذَا خَرَجَ بِلَا إذْنٍ وَالتَّرْجِيحُ مِنْ زِيَادَتِهِ.
(وَرُجُوعُ الْعَبْدِ إذَا خَرَجَ بِلَا إذْنٍ) مِنْ سَيِّدِهِ (قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْقِتَالِ وَاجِبٌ وَبَعْدَهُ مُسْتَحَبٌّ) وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الثَّبَاتُ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ.
(فَرْعٌ) لَوْ (مَرِضَ) مَنْ خَرَجَ لِلْجِهَادِ (أَوْ عَرَجَ) عَرَجًا بَيِّنًا (أَوْ تَلِفَ زَادُهُ فَلَهُ الِانْصِرَافُ وَلَوْ مِنْ الْوَقْعَةِ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْقِتَالُ هَذَا (إنْ لَمْ يُورِثْ) انْصِرَافُهُ مِنْ الْوَقْعَةِ (فَشَلًا) فِي الْمُسْلِمِينَ وَإلَّا حَرُمَ انْصِرَافُهُ مِنْهَا وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ إطْلَاقُ نَصِّ الْأُمِّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الِانْصِرَافُ مِنْهَا فَقَوْلُ الْإِسْنَوِيِّ أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ وَأَلْحَقَ الْأَصْلُ هُنَا تَلَفَ الدَّابَّةِ بِتَلَفِ الزَّادِ وَذَكَرَ فِيهِ كَلَامًا مَرْدُودًا بِمَا ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي فَتَرَكَهُ الْمُصَنِّفُ لِيَذْكُرَهُ ثَمَّ عَلَى الصَّوَابِ.
(وَلْيَنْوِ) نَدْبًا الْمُنْصَرِفُ مِنْ الْوَقْعَةِ لِمَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ (التَّحَيُّزَ) أَوْ التَّحَرُّفَ إلَى مَكَان لِيَزُولَ عُذْرُهُ هَذَا مِنْ زِيَادَتِهِ هُنَا وَلَوْ قَالَ: وَلَا يَنْوِي الْفِرَارَ كَانَ أَوْلَى.
(فَإِنْ) انْصَرَفَ لِعُذْرٍ كَتَلَفٍ زَادَ ثُمَّ (زَالَ الْعُذْرُ قَبْلَ فِرَاقِ دَارِ الْحَرْبِ لَا بَعْدَهُ لَزِمَهُ الرُّجُوعُ) لِلْجِهَادِ.
(وَمَنْ شَرَعَ فِي صَلَاةِ جِنَازَةٍ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ) لَهَا؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْخَصْلَةِ الْوَاحِدَةِ وَقَدْ تَعَلَّقَ الْفَرْضُ بِعَيْنِ الْمُصَلِّي لِشُرُوعِهِ فِيهِ وَلِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْهَا هَتْكٌ لِحُرْمَةِ الْمَيِّتِ (كَالْقِتَالِ) فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مَنْ شَرَعَ فِيهِ إتْمَامَهُ فَيَحْرُمُ انْصِرَافُهُ مِنْهُ إذْ يُخَافُ مِنْهُ التَّخْذِيلُ وَكَسْرُ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ لَا مَنْ شَرَعَ فِي تَعَلُّمِ (عِلْمٍ) فَلَا يَلْزَمُهُ إتْمَامُهُ (وَإِنْ آنَسَ) مِنْ نَفْسِهِ (الرُّشْدَ) فِيهِ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الْمَشْرُوعِ فِيهِ غَالِبًا وَلِأَنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ مَطْلُوبَةٍ بِرَأْسِهَا مُنْقَطِعَةٌ عَنْ غَيْرِهَا وَلَيْسَتْ الْعُلُومُ كَالْخُصْلَةِ الْوَاحِدَةِ بِخِلَافِ الْجِهَادِ وَنَحْوِهِ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَالْمُخْتَارُ لُزُومُ إتْمَامِهِ؛ لِأَنَّهُ تَلَبُّسٌ بِفَرْضٍ عَظِيمٍ وَلَوْ شُرِعَ لِكُلِّ شَارِعٍ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ لِإِعْرَاضٍ عَنْهُ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى إضَاعَةِ الْعِلْمِ.
(فَصْلٌ يَتَعَيَّنُ الْجِهَادُ بِالشُّرُوعِ فِي الْقِتَالِ) الْأَوْلَى وَالْأَخْصَرُ فِيهِ (عَلَى أَهْلِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ) هَذَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ لِعِلْمِهِ مِمَّا مَرَّ.
(وَ) يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ (بِدُخُولِ الْكُفَّارِ فَإِنْ دَخَلَ الْكُفَّارُ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ تَعَيَّنَ) عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُمْ لَهَا خَطْبٌ عَظِيمٌ لَا سَبِيلَ إلَى إهْمَالِهِ وَلَوْ قَالَ وَبِدُخُولِ الْكُفَّارِ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ وَحَذَفَ الْبَاقِيَ كَانَ أَوْلَى وَأَخْصَرَ فَلَوْ دَخَلُوا بَلْدَةً لَنَا تَعَيَّنَ عَلَى أَهْلِهَا مِنْ الْمُكَلَّفِينَ (حَتَّى عَلَى عَبِيدٍ وَنِسَاءٍ لَا) نِسَاءَ (ضَعِيفَاتٍ) فَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِنَّ وَعِبَارَةُ الْأَصْلِ فَلَا يَحْضُرْنَ وَعَلَّلَهُ الرَّافِعِيُّ بِأَنَّ حُضُورَهُنَّ قَدْ يَجُرُّ شَرًّا وَيُورِثُ وَهَنًا (وَلَا حَجْرَ لِسَيِّدٍ) عَلَى رَقِيقِهِ (وَ) لَا (زَوْجٍ) عَلَى زَوْجَتِهِ وَلَا أَصْلٍ عَلَى فَرْعِهِ وَلَا دَائِنٍ عَلَى مَدِينِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِمَا الْأَصْلُ (حِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ دُخُولِ الْكُفَّارِ الْبَلْدَةَ (وَ) حَتَّى (عَلَى الْمَعْذُورِينَ) بِعَمًى وَعَرَجٍ وَمَرَضٍ وَنَحْوِهَا (وَ) عَلَى (مَنْ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ) مِنْ الْبَلْدَةِ (وَلَوْ اسْتَغْنَى عَنْهُمْ) بِغَيْرِهِمْ لِتَقْوَى الْقُلُوبُ وَتَعْظُمُ الشَّوْكَةُ وَتَشْتَدُّ النِّكَايَةُ فِي الْكُفَّارِ انْتِقَامًا مِنْ هُجُومِهِمْ (وَلَا يَجُوزُ انْتِظَارُهُمْ مَعَ قُدْرَةِ الْحَاضِرِينَ) عَلَى الْقِتَالِ عِبَارَةُ الْأَصْلِ وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْبَلْدَةِ ثُمَّ الْأَقْرَبِينَ فَالْأَقْرَبِينَ إذَا قَدَرُوا عَلَى الْقِتَالِ أَنْ يَلْبَثُوا إلَى لُحُوقِ الْآخَرِينَ (وَ) حَتَّى (عَلَى الْأَبْعَدِينَ) عَنْ الْبَلْدَةِ بِأَنْ يَكُونُوا بِمَسَافَةِ الْقَصْرِ (عِنْدَ الْحَاجَةِ) إلَيْهِمْ فِي الْقِتَالِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِهَا وَاَلَّذِينَ يَلُونَهُمْ كِفَايَةٌ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِيهِمْ كِفَايَةٌ لَا يَجِبُ عَلَى الْأَبْعَدِينَ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْإِيجَابِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَفِي ذَلِكَ حَرَجٌ بِغَيْرِ حَاجَةٍ فَيَصِيرُ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ فِي حَقِّ مَنْ قَرُبَ وَفَرْضَ كِفَايَةٍ فِي حَقِّ مَنْ بَعُدَ.
(وَيُشْتَرَطُ)
ــ
[حاشية الرملي الكبير]
قَوْلُهُمْ وَمَنْ شَرَعَ فِي صَلَاةِ جِنَازَةٍ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ) شَمِلَ كَلَامُهُ صَلَاةَ مَنْ سَبَقَهُ غَيْرُهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا وَمِثْلُ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَكَتَبَ أَيْضًا الْغُسْلُ وَسَائِرُ التَّجْهِيزِ كَذَلِكَ (قَوْلُهُ لَا عِلْمَ وَإِنْ آنَسَ الرُّشْدَ فِيهِ) وَكَذَا سَائِرُ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ غَيْرُ مَا مَرَّ (قَوْلُهُ: لِأَنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ مَطْلُوبَةٍ بِرَأْسِهَا مُنْقَطِعَةٌ عَنْ غَيْرِهَا) فَإِنْ قِيلَ: إنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الِاسْتِمْرَارِ فِي تَعَلُّمِ الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ وَإِطْلَاقُهُمْ يُنَافِيه قُلْنَا الْمُرَادُ بِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ تَحْصِيلُ عِلْمِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مَسَائِلُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ إذْ هِيَ الْمُثْبَتَةُ بِالدَّلِيلِ فِي الْعِلْمِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الشُّرُوعُ فِيهِ بِأَقَلَّ مِنْ عِلْمِ حُكْمِ مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ فَمَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ فَهُوَ لَمْ يَشْرَعْ بَعْدُ، وَإِعْرَاضُهُ بَعْدَ تَصَوُّرِ الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُولِ وَالتَّرَدُّدِ فِي الْحُكْمِ إعْرَاضٌ قَبْلَ الشُّرُوعِ لَا بَعْدَهُ (قَوْلُهُ: قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَالْمُخْتَارُ لُزُومُ إتْمَامِهِ إلَخْ) مَا قَالَهُ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّهِ غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ إلَى مُكَلَّفٍ لَهَا عَلَيْهِ.
[فَصْلٌ يَتَعَيَّنُ الْجِهَادُ بِالشُّرُوعِ فِي الْقِتَالِ]
(قَوْلُهُ: وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ بِدُخُولِ الْكُفَّارِ) هَلْ الْخَوْفُ مِنْ الدُّخُولِ كَنَفْسِ الدُّخُولِ وِجْهَاتٌ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ أَنَّ الْمُشْرِفَ عَلَى الزَّوَالِ كَالزَّائِلِ أَمْ لَا قَالَ شَيْخُنَا: يَظْهَرُ أَنَّهُ إنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ دُخُولُهُمْ إنْ لَمْ يَخْرُجُوا لِلْقِتَالِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ كا (قَوْلُهُ: وَلَا حَجْرَ لِسَيِّدٍ عَلَى رَقِيقِهِ) وَلَا زَوْجٍ عَلَى زَوْجَتِهِ وَلَا أَصْلٍ عَلَى فَرْعِهِ وَلَا دَائِنٍ عَلَى مَدِينِهِ لِأَنَّهُ قِتَالُ دِفَاعٍ عَنْ الدِّينِ لَا قِتَالَ غَزْوٍ فَلَزِمَ كُلَّ مُطِيقٍ، وَأَيْضًا فَإِنْ تَرَكَهُ قَدْ يُفْضِي إلَى الْهَلَاكِ فَقُدِّمَ عَلَى حَقِّ الْأَبَوَيْنِ وَصَاحِبِ الدَّيْنِ وَالسَّيِّدِ (قَوْلُهُ: كَمَا صَرَّحَ بِهِمَا الْأَصْلُ) وَحَذَفَهُمَا الْمُصَنِّفُ لِعِلْمِهِمَا مِمَّا ذَكَرَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.